الرسائل الفقهیه

اشارة

سرشناسه : حسینی نجومی، مرتضی، - 1303

عنوان و نام پديدآور : الرسائل الفقهیه/ تالیف مرتضی الحسینی النجومی

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان، للطباعه و النشر، 1422ق. = 1380.

مشخصات ظاهری : ص 219.

شابک : 964-438-283-8 ؛ چاپ دوم : 978-964-438-283-3

يادداشت : عربی

يادداشت : چاپ دوم : (1431ق. = 2010م. = 1389). (فیپا)

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP183/9/ح 57ر5 1380

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-11286

رسالة التصوير و التمثيل

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ، و الصّلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطيّبين الطاهرين، و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين.

و بعد: ممّا منّ اللّه تبارك و تعالى علينا ببركة قيام الجمهورية الإسلامية، و زوال الدولة الفاسدة الطاغوتية إقامة مؤتمرات، و ندوات إسلاميّة تتعرّض فيها جوانب من المعارف و المسائل الإسلامية، سواء كانت متعلّقة بأصولي الدين و الفقه، أو الكلام، أو الفقه، أو المعارف، أو جوانب حياة أعاظم الدين، و علمائنا الأكارم، مثل: مؤتمري الشيخين العظيمين (المفيد و الأنصاري) قدّس اللّه تبارك و تعالى روحيهما الشريفة، و قد كلّفت من قبل الهيأة المسؤولة عن إقامة مؤتمر شيخ الأساطين العظام الشيخ الأعظم الأنصاري بالتعرّض لجانب من جوانب حياته الكريمة، و تأليف مسائل و رسائل متعرّضة لبعض المباحث التي تعرّض لها، و قد اخترت تأليف رسالتين الأولى: مسألة التصوير و التمثيل و حكمهما. و الثانية: مسألة الغناء، و النظر الأساسي

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 6

في البحث إلى ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه في المسألتين.

«و هذه هي الرسالة الأولى في حكم التصوير و التمثيل» فنقول بعون اللّه تبارك و تعالى:

إنّ المسألة حسب موارد

الخلاف تقع في أربع صور، لأنّ التصوير و التمثيل إمّا بنحو التجسيم، أو الرسم، و كلّ منهما إمّا من ذوات الأرواح، أو من غيرها، و الكلام المهمّ في الصورة الأولى، أعني:

تجسيم ذوات الأرواح. و قد أشار إليه الشيخ الأعظم بعدم الخلاف في حرمتها نصّا و فتوى. و في الجواهر أنّ الإجماع بقسميه عليه. «1»

و لعلّه هو القدر المتيقّن ممّا ادّعى استفادة حرمته من النصوص، و الروايات الواردة و سيجي ء بيان ذلك قبولا أو ردّا إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا تجسيم، و رسم غير ذوات الأرواح، فلا إشكال في جوازه- سواء كان بنحو المجسّمة، أو مجرّد النقش- كما يستفاد جوازه بلا إشكال من صريح النصوص الواردة في كلمات الأئمّة المعصومين، و العبارات الواصلة إلينا من علمائنا الأعاظم. و تبقى الصورة الثانية من الصور الأربع أعني: نقش ذوات الأرواح، و مجرّد رسمها من دون أن تكون مجسّمة هي محرمة، أو مكروهة؟ و لا إشكال في عدم تحقّق إجماع و اتّفاق على الحرمة، و عدم نقل لمثل هذا الإجماع و الاتّفاق؛ و إلّا لما تمسّكوا بالروايات الواردة المدّعاة دلالتها على الحرمة. و نقل ظواهر

______________________________

(1). جواهر الكلام: 22/ 41، طبعة النجف.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 7

كلمات بعض الأعاظم الحرمة ما يصل إلى حدّ يغني الفقيه عن التمسّك بالروايات، بل ربّما يمكن منشأ حكمهم بالحرمة في تجسيم المجسّمات ذوات الأرواح استفادتها من هذه الروايات بلا تعبّد باتّفاق، و إجماع محقّق في البين، فكيف تصوير ذوات الأرواح؟ و على كل نبقى نحن و الروايات الواردة، و ما يدّعى دلالته على الحرمة، و نتعرّض لها مستعينين بألطاف اللّه جلّ جلاله.

و قد عقد شيخنا الأنصاري العظيم المسألة من النوع الرابع، أي: ممّا

يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرّما في نفسه اقتفاء لآثار الفقهاء. و الإنصاف أنّ عقد المسألة في مبتدأ الورود بهذا العنوان جزما منظور فيه، لأنّ الكلام في تمحّض حكم التصوير، و التمثيل في الحرمة، و هو أوّل الكلام. و لعلّه مبناه من أنّ حرمة التصوير و التمثيل في صورة كونه من ذي الروح ممّا حرّمه اللّه محضا.

و قبل الورود في البحث ينبغي لنا الإشارة إلى ما يستفاد وضوحا من رواية التحف و هو سرّ الحرمة و الحلّية، و ملاكهما فيما يحرم و يحلّ من تفسير الصناعات.

و تعطينا الرواية ضابطة كلّية للحرمة، و هي: مجي ء الفساد محضا من تلك الصناعة. و قد أشير في الرواية الشريفة إليها بقوله عليه السّلام: إنّما حرّم الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا. نظير البرابط، و المزامير، و الشطرنج، و كلّ ملهوّ به، و الصلبان، و الأصنام؛ و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام، و ما يكون منه و فيه الفساد

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 8

محضا. و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه، و تعلّمه، و العمل به، و أخذ الأجر عليه، و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها. «1»

و هذه هي الضابطة الكلّية للحرمة. و نستفيد من هذه العبارة صيانة من التناقض و التّضادّ في كلام المعصوم سلام اللّه عليه: أنّ المراد من المستثنى الواقع في أوّل تفسير الصناعات «ما لم يكن مثل الروحاني» هو الذي لا يأتي من قبل تلك المثل إلّا الفساد المحض، و هي المعبّرة و المفسّرة في آخر العبارة التي نقلناها «و الصلبان و الأصنام».

و لا شكّ أنّ الصور و التماثيل ليست

فسادا محضا، فربّما تكون مادّة فساد كما في موارد تصنيع الصلبان و الصنم، و إقامة الطقوس الدينيّة الكافرة بها.

و ربّما، و كثيرا ما، تكون الصور، و التماثيل سالمة عن هذه الأمور ذات قيم هائلة، و من أنفس نفائس الدول و الثروات التي لا يستهان بها؛ و تحفظها الممالك و المتاحف، و يفتخرون بحيازتها و صيانتها، و اقتنائها و الاحتفاظ بها. و أمثال هذه الموارد خارجة عن الضابطة المشار إليه في الرواية.

و يشهد على الجواز في هذه الموارد تكرار حلّية الصناعة التي قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي، و تكون معونة على الحقّ

______________________________

(1). تحف العقول: 336، طبعة الغفاري.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 9

و الباطل. و قد ورد عين هذه العبارة في الرواية مذيّلة «فلا بأس بصناعته و تعليمه نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد من تقوية معونة ولاة ولاة الجور. و كذلك السكّين، و السيف، و الرمح، و القوس، و غير ذلك من وجوه الآلة التي قد تصرف إلى جهات الصلاح، و جهات الفساد؛ و تكون آلة، و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه، و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و فيه، و العمل به، و فيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، و محرّم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ ... الخ». «1»

و كذلك بعد بيان الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا- كما أشرنا إليه آنفا- كرّر عليه السّلام هذا المضمون بعد قوله عليه السّلام: إلّا أن تكون صناعة قد تتصرف إلى جهات الصنائع، و إن كان قد يتصرّف بها، و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّه لما فيه الصلاح حلّ تعلّمه، و

تعليمه، و العمل به. و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح. «2»

و لهذا يقوى في النظر حلّية تماثيل ذوات الأرواح أيضا. و كون القدر المتيقّن من الإجماع المدّعى، و المنعقد على حرمتها موارد تحقّق الفساد فيها، و الأخذ بالاحتياط أمر آخر، و سيجي ء الكلام مفصّلا.

و ينبغي لنا الآن التعرّض لما أفاده الشيخ الأعظم في المسألة، و ما استند

______________________________

(1). تحف العقول: 335.

(2). تحف العقول: 336.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 10

إليه للدلالة على الحرمة.

[أدلة القائلين بالحرمة]

الرواية الأولى: قوله عليه السّلام: نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم. «1»

و بمقتضى ورود كلمة النقش التي لا إشكال في ظهورها في التصوير، و عدم التجسيم يختصّ النهي بمجرّد نقش غير المجسّم من الحيوان، أو تنازلنا فهي بعمومها، أو إطلاقها تشمل الصورة المجرّدة و المجسّمة فتدلّ على النهي عن النقش، أو تجسيم الحيوان على خصوص الخاتم.

وفيه:

أوّلا: ضعف الرواية بشعيب بن واقد كما أشاروا إليه في محلّه كرارا.

و ثانيا: أنّ النهي قد استعمل في أمثال المقام في مطلق المنع الشامل للكراهة و الحرمة. و يستفاد خصوص أحدهما من أمر خارج.

و شواهده كثيرة في المقام، و قد جعل الشيخ قدّس سرّه في المسألة الثانية ما ورد «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، و ينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها» من أدلّة كراهة التشبّه، مع ورود مادّة النهي فيه أيضا. «2»

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 3/ 322، الباب 46 من أبواب لباس المصلّي، كتاب الصلاة، الحديث 2.

(2). المكاسب: 2/ 191، طبعة كلانتر.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 11

و لا يخفى انّ النهي ظاهر في الحرمة لولا اقتران قرينة به على إرادة خلاف هذا الظهور و لكن في أمثال هذه الموارد كثر استعمال النهي في مطلق

المنع الشامل للكراهة و الحرمة بحيث لا تطمئنّ النفس بإرادة الحرمة من النهي و لا تستقرّ على الإفتاء بالحرمة.

هذا مع غضّ النظر عن اشتمال مناهي هذه الرّواية على الحرام و المكروه قطعا مثل: التختم بخاتم صفر أو حديد. «1»

و احتمال كون النهي كراهيّا من هذه الجملة السّياقية، حتى يستشكل باحتمال صدور نواهي النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم في مجالس متعدّدة، و جمعها الإمام في مقام الحكاية.

و ثالثا: حيث إنّ النّهي عن تصوير الصّورة، وارد مطلقا من دون تقييد بخاتم، أو حيوان، فلابدّ من أن يكون في النّهي عن نقش شي ء من الحيوان على الخاتم خصوصيّة، فيمكن أن يكون هذا النّهي في خصوص نقش الحيوان على الخاتم لا مطلق تصوير الحيوان، و لو بنحو المجسّمة في غير الخاتم، فضلا عن كونه بنحو النقش في غير الخاتم. فالنهي في الحقيقة إرشاد إلى مورد و موضع تحقّق المنهيّ و المكروه و راجع إلى التختّم بخاتم يكون فيه نقش الحيوان. و النهي عن نقش شي ء من الحيوان تحفّظا عن التّختّم بمثل هذا الخاتم. و التختّم بمثله مكروه. و إن قلنا بسريان النّهي عن النقش إلى النّهي عن الصّلاة فيه

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب تحريم عمل الصور المجسّمة، الحديث 6.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 12

فلابدّ من حمل النهي على الكراهة بمقتضى رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عن الخاتم فيه نقش تماثيل سبع، أو طير أيصلّى فيه؟ قال: لا بأس. «1»

الرواية الثانية: قوله عليه السّلام: نهى عن تزويق البيوت.

قلت: و ما تزويق البيوت؟ فقال: تصاوير التماثيل.

أصل الرواية موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم أتاني جبرئيل قال:

يا محمّد، إنّ ربّك يقرئك السلام، و ينهى عن تزويق البيوت. قال أبو بصير: قلت: و ما تزويق البيوت؟

فقال: تصاوير التماثيل. «2».

في مجمع البحرين: زوّقته تزويقا مثل زيّنته تزيينا وزنا و معنى.

و في لسان العرب: كره تزويق المساجد لما فيه من الترغيب في الدنيا و زينتها، أو لشغلها المصلّي (بفتح الشين) و في الحديث: ليس لي، و لنبّي أن يدخل بيتا مزوّقا- أي مزيّنا-. «3»

قال في الجواهر: إنّ الرواية غير صالحة للاستدلال سندا. «4»

و لا يخفى أنّ تعبير تصاوير التماثيل بلفظ الجمع في التصاوير مضافة إلى التماثيل مشعر بكون المقصود هي التماثيل المصوّرة، أو

______________________________

(1). الوسائل: 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 10.

(2). الوسائل: 3/ 560، الباب 3 من أحكام المساجد، الحديث 1.

(3). لسان العرب: 10/ 150.

(4). الجواهر: 22/ 43.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 13

الصور الممثّلة- لا بالمعنى المصدري للتصوير- حتّى يكون مرتبطا بالنقش، و الرسم، و إيجاد التصاوير و التماثيل. و لا فرق بين أن تكون عبارة الرواية هي تصاوير التماثيل، أو التصاوير و التماثيل بنحو الإضافة، أو العطف على ما في بعض النسخ؛ فإنّ ظاهر العبارة تزويق البيوت، و تزيينها بالتماثيل المصوّرة، أو التصاوير و التماثيل. و إن كان الأغلب في زماننا هذا تزيين البيوت بالنقوش و الرسوم بخلاف القرون الإسلاميّة الأولى لعدم عهد من العرب بالرسم دون التماثيل المجسّمة لاستيناسهم بالأصنام، و تقليدهم عن التمدّنات الصنمية، و الساساني، و الرومي.

و النهي وارد عن اتّخاذ الصور و التماثيل، أو التماثيل المحضة في البيوت. و من الواضح جدّا أنّ تزويق البيوت غير حرمة النقش و التمثيل؛ و حتّى غير كراهة النقش و التمثيل. فالمسألة في الحقيقة راجعة إلى الاقتناء و تزيين

البيوت و تزويقها، و تزيين المساجد و تزويقها بمثل هذه التماثيل مكروه، و النهي كراهيّ بمقتضى الترخيص الوارد في الروايات المتعدّدة الآتية.

و واضح أنّ هذا التزيين يشغل الإنسان، و إغفاله عن التوجّه إلى الآخرة، و تفتّنه بالدنيا؛ بل يكره تزيين البيوت و المساجد بكلّ ما يفتن الإنسان، و يشغله عن التوجّه إلى اللّه و الإقبال على الآخرة- و إن كان من غير ذوات الأرواح- و لذا لا إشكال فيما إذا كانت تلك الصور و التماثيل موطئة تحت الأقدام، أو مستورة، أو منقّصة مكسورة.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 14

و في النهج خطبة 160 في صفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: و يكون الستر على باب بيته فيكون فيه التصاوير، فيقول: يا فلانة، لإحدى أزواجه: «غيّبيه عنّي فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها» فأعرض عن الدنيا بقلبه، و أمات ذكرها من نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه.

و ينبغي لنا قبل التعرّض لعبارة تحف العقول أن نتعرّض لمعاني الكلمات الثلاث الدائرة في لسان روايات المقام، أعني: المثال، و الصورة، و النقش.

و لا شكّ أنّ هذه العناوين و أمثالها مثل: الغناء في باب الكسب عناوين عرفية مأخوذة من العرف، و ليست من الموضوعات المستحدثة، أو المستنبطة الشرعية الخاصّة التي قد أسّسها و أتى بها الشارع المقدّس في قبال العرف.

و لا إشكال أنّ الظاهر من لفظ النقش هو الرسم، و إراءة الشكل و الصورة بنحو مجرّد النقش و الرسم دون التجسيم، و التحجيم.

و أمّا الصورة و المثال فربّما يقال أنّ كليهما بمعنى واحد، و هو الجسم المجسّم ذو الظلّ. و حملوا التعابير الواردة في الروايات بالصورة و التصوير، و من صوّر صورة و

أمثالها على المجسّمة ذات الروح.

فإن قلنا بهذا القول فلا شكّ أنّ القدر المتيقّن من الحرام في المقام صنع الهيكل المجسّم من ذوات الأرواح، و جميع التعابير المشتقّة من مادّة الصورة، أو المثال هذا المعنى. فلا دليل قطعيّا على حرمة مجرّد النقش، و رسم ذوات الأرواح؛ و هو باق على الإباحة، و الجواز، لأنّ

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 15

الرسم و النقش بهذا المعنى ليس صورة و لا مثالا. و لكنّ التحقيق و الإنصاف خلاف هذا قطعا، لأنّ الصورة تشمل الصورة المرسومة و المنقوشة غير المجسّمة، سواء كانت من ذوات الأرواح، أو غيرها.

و القطع بإرادة هذا المعنى أعني: الصورة المجرّدة غير المجسّمة في أغلب الروايات الواردة من مادّة الصورة أيضا.

ثمّ الكلام في أنّ لفظة الصورة هل هي مختصّة بالرسوم و النقوش دون المجسّمة؟ و لفظة المثال و التمثال مختصّة بالمجسّمة دون الرسوم و النقوش؟ أو أنّ الصورة أعمّ مطلق و التمثال أخصّ؟ و بعبارة أخرى هل هما مترادفان و أنّ كلا منهما يشمل المجسّم، و غير المجسّم سواء؟ أم متقابلان؟ أم بينهما عموم و خصوص مطلق بمعنى أنّ كلّ تمثال صورة دون العكس؟

ربّما يقال: إنّ كلا من الصورة و المثال بمعنى واحد مترادفان، سواء كانتا مجسّمة أو غير مجسّمة، بتصريح أهل اللغة، و يتراءى هذا لمن راجع كتب اللغة.

في القاموس: مثّله له تمثيلا، صوّره له حتّى كأنّه ينظر إليه.

و هكذا عبارات سائر كتب اللغة. و الإنصاف أنّ تعريف كلّ منهما بالآخر تعريف عرفي استيناسيّ في نظرهم بمعنى أنّ مع كليهما في نظر العرف نظرا مسامحيّا معلوم. و التعريف ليس تعريفا دقيقا جدّيا، بل هو للتقريب. مضافا إلى ما قيل: إنّ شأن اللغويّين بيان موارد الاستعمال،

الرسائل الفقهية

(للنجومي)، ص: 16

لا بيان المعاني الحقيقة كما في جامع المدارك. «1»

و لكنّ تعريف أهل اللغة لمعاني الألفاظ ليس مجرّد بيان موارد الاستعمال، بل بيان موارد الاستعمال التي تكون الألفاظ ظاهرة عرفا في تلك المعاني، بمعنى إنّا إن لم نقل: بأنّهم في مقام بيان المعاني الحقيقيّة للألفاظ، و لكنّهم في مقام بيان المعاني الظاهرة للألفاظ، بحيث تحمل الألفاظ على تلك المعاني بلا قرينة صارفة، و معيّنة. و نحن نرى المراجعين إلى كتب اللغة يأخذون تلك المعاني للألفاظ إن لم يمنعهم مانع.

و نحن نرى أيضا في الروايات الواردة في أبواب أحكام المساكن و المساجد، و أبواب لباس المصلّي و مكانه إطلاق المثال و التمثال على مجرّد النقش و الرسم في الثياب، و الطنفسة، و الوسائد، و الفرش، و الأستار. و لا إشكال في عدم إرادة الجسم من التمثال في أغلب هذه الموارد لعدم ملائمة المجسّمة مع الثياب، و الطنفسة، و الأستار و غيرها.

و هذه الروايات كثيرة فراجعها في بحار الأنوار. «2»

و لعلّ التأمّل في هذه الموارد يرشدنا إلى أنّ المثال و التمثال يطلق على المجسّمة و الصورة على الأعمّ من المجسّمة و الصورة المجرّدة. و في روايات متعدّدة «صوّر تمثالا»، أو «تكسر رءوس التصاوير». و الظاهر أنّ إطلاق الصورة على موارد المجسّمة و غير المجسّمة إطلاق اللفظ

______________________________

(1). جامع المدارك، للخوانساري: 3/ 14.

(2). بحار الأنوار: 83/ 238- 256 و 288- 304.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 17

على معناه الحقيقي.

و لكن مع هذا لا إشكال في إيراد كلّ من الصورة و التمثال في قبال الآخر في الروايات. بحيث أريد من الصورة مجرّد الصورة و النقش، و من التمثال المجسّم- كما في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر- و

سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل أ يصلّى فيه؟ قال:

يكسر رءوس التماثيل و يلطّخ رءوس التصاوير، و يصلّي فيه، و لا بأس. «1»

و نظير هذه الرواية جميع الروايات الآمرة بكسر رءوس التماثيل لعدم مناسبة الكسر مع مجرّد النقش و الرسم. و كما فيما نقله البحار عن المحاسن عن عليّ بن الحكم عن أبان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: إنّ جبرئيل عليه السّلام قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، و لا صورة إنسان، و لا بيتا فيه تمثال. «2»

و لو كان عموم التمثال شاملا لصورة الإنسان لما كان مجالا لتقابلهما، و التفرقة بينهما. و نقل في البحار حديثا مفصّلا في إراءة الأصنام إلى الحسن عليه السّلام من قبل ملك الروم. و لفظة المثال و التمثال فيها مراد بها الأصنام قطعا. و لا إشكال في ظهور كلمة الصنم في المجسّم دون الصورة و النقش. و سنتعرّض لبعض فقراتها عند التعرّض لجملة تماثيل الشمس و القمر.

______________________________

(1). بحار الأنوار: 83/ 290.

(2). بحار الأنوار: 76/ 159؛ المحاسن: 614.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 18

هذا، و يمكننا ادّعاء ظهور كلمة المثال في خصوص المجسّمة قطعا. كما أنّ ظهور كلمة الصورة في الرسم و النقش المجرّد لو لا القرينة مثل ما ذكرنا آنفا.

و المستفاد من عبارة تحف العقول «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني» أنّ التصوير يشمل التمثال قطعا، لأنّ استثناء مثل الروحاني عن صنوف التصاوير مقتض لدخولها في المستثنى، لو لا الاستثناء. و حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع خلاف الظاهر. و يشهد على ما أشرنا إليه في المقام ما ورد في

روايات أخر: رجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها. إن قيل يمكن أن يراد من المثل و التمثال في هذه الموارد بقرينة «صوّر» الصورة لا المجسّمة. نقول: قد أشرنا أنّ المثال و التمثال ظاهران في المجسّم، و واقعان في قبال الصورة في الروايات، و هذا الظهور أقوى من احتمال إرادة الصورة من التمثال.

و ممّا يشهد على إطلاق الصورة على الجسم، و الصنم ما ورد في الحديث الشريف عن جعفر بن محمّد عليه السّلام في قوله تعالى: وَ قٰالُوا لٰا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لٰا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لٰا سُوٰاعاً وَ لٰا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً. «1»

قال: كانوا يعبدون اللّه عزّ و جلّ، فماتوا فضجّ قومهم، و شقّ ذلك عليهم، فجاءهم إبليس- لعنه اللّه- فقال لهم: أتّخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم، و تأنسون بهم، و تعبدون اللّه؟ فأعدّ لهم أصناما

______________________________

(1). نوح: 23.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 19

على مثالهم ... الخ. «1»

و قد قالوا مؤيّدا لما ذكرناه: إنّ مثال الشي ء ظاهر في المجسّمة، إذ المثال الحقيقي ما كان مثالا للشي ء من كلّ الجهات و الجوانب، لا ما كان مثالا له من جانب واحد، و هذا لا يكون إلّا في المجسّمة، فإنّ فيها يفرض مثال الجهات الستّ. و هذا حسن، لو لا إصلاح اللغة بالاستحسانات الذوقيّة. و لكن في النهاية في غريب الحديث و الأثر:

ظلّ كلّ شي ء تمثاله، و مثل الرجل يمثل مثولا إذ انتصب قائما. و يفهم من هذا المعنى للمثول معنى القيام و الانتصاب. و هو يلائم التجسّم لا الصورة المجرّدة.

و في لسان العرب: و في الحديث: من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار. أي يقوموا له قياما و

هو جالس. «2»

و كذا في لسان العرب: التمثال اسم للشي ء المصنوع مشبّها بخلق من خلق اللّه و جمعه التماثيل، و أصله من مثّلت الشي ء بالشي ء إذا أقدرته على قدره. «3»

و في الحديث الشريف: من رآني فقد رآني في اليقظة، فإنّ الشيطان لا يتمثّل على صورتي. و في البحار: باب أخبار الرضا، و أخبار آبائه عليه السّلام بشهادته في ذيل الحديث، و لقد حدّثني أبي عن جدّي عن

______________________________

(1). نور الثقلين: 5/ 425، نقلا عن علل الشرائع.

(2). لسان العرب: 11/ 614.

(3). المصدر السابق.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 20

أبيه عليه السّلام: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: من رآني في منامه فقد رآني، لأنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي، و لا في صورة واحد من أوصيائي، و لا في صورة أحد من شيعتهم. الحديث. «1»

و بهذه المناسبة فانظر حديثا آخر في البحار. «2»

و قد روى المجلسي رضوان اللّه تعالى عليه عن طرق العامّة روايات متعدّدة عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بألفاظ مختلفة: من رآني في المنام فقد رآني، فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي. و نقل في معنى الرواية و تفسيرها كلام أئمّة العامّة مفصّلا. فراجع. «3»

و من التعبير الواقع في الحديث الشريف الذي سبق ذكره «فإنّ الشيطان لا يتمثّل على صورتي» يظهر الفرق الواضح بين المثال و الصورة، فإنّ الصورة الشكل، و المثال هي الهيأة المشابهة.

و بمناسبة معنى المثال، و التمثّل، و التمثيل في قبال الصورة نلتفت إلى العبارة الواقعة في الأحاديث الشريفة «و ممثّل من الممثّلين» أي: من يمثّل حركات الآخرين، و سلوكهم، و كيفيّتهم بمعنى ما نقوله اليوم التمثيلية، أو الفلم. و في مسند أحمد بن

حنبل أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبيّ، أو قتل نبيّا، و إمام

______________________________

(1). بحار الأنوار: 49/ 283 و 61/ 176.

(2). بحار الأنوار: 47/ 269، الحديث 43.

(3). بحار الأنوار: 61/ 234- 239.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 21

ضلالة، و ممثّل من الممثّلين. «1»

هذا التعبير في مثل هذا الحديث تحذير عن تقليد الآخرين تعييرا، أو تنقيصا منهم. و هذا معنى آخر للمثال، أعني: تمثيل حركات الآخرين. و في الحقيقة هناك قسم خامس للمسائل الأربع التي عقدناها في أوّل الكلام. و يقع النظر فيه في جواز هذا التمثيل السينمائي و عدمه بلا ربط له بمسألة التصوير و التمثيل، و سيجي ء نظير هذا الحديث عن أئمّتنا الطاهرين، و بيان المراد منه.

ثمّ لا إشكال في أنّ التصوير في عصرنا الحاضر يطلق على الصورة المجرّدة بلا تجسّم. و التمثال يطلق على المجسّمة. و هكذا وردت في خبر عليّ بن جعفر: سألت أخي موسى عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّى فيه؟ فقال: تكسر رءوس التماثيل، و تلطّخ رءوس التصاوير، و تصلّي فيه و لا بأس. قال: و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع، أو طير يصلّى فيه؟ قال: لا بأس. «2»

و الإنصاف، أنّ المثال ظاهر في المجسّمة في قبال الصورة المحضة، و القدر المتيقّن من المحرّم إن قلنا به تمثيل المثال و التمثال.

و الكلام في عمومات التحريم في التصوير و التمثيل، و في إمكان استفادة عموم التحريم و إطلاقه، سواء كان بنحو الصورة و التصوير،

______________________________

(1). مسند أحمد بن حنبل: 1/ 407.

(2). وسائل الشيعة: 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 10.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص:

22

أو بنحو المثال و التمثل في ذوات الأرواح. و في إمكان استفادة هذا التعميم من أخبار النفخ.

و لنرجع إلى الكلام في جملة رواية تحف العقول أي: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني»، و لنذكر ما أشرنا إليه في منعقد الكلام من أنّ المحرّم لا بدّ و أن يكون فسادا محضا، و كون مثل ذوات الأرواح كذلك لا بدّ من أن يكون في ظروف خاصّة، و شرائط مخصوصة. و ربّما نستفيد ذلك الظرف الخاصّ من التعبير الواقع في الرواية، أعني: «مثل الروحاني» دون مثل ذوات الأرواح، فإنّ هذا التعبير الخاصّ، أعني: كلمة مثل مضافة إلى الروحاني تعبير مخصوص ناشئ عن نفوذ بعض نماذج التمدّن الإيراني، و الرومي، و اليوناني في جزيرة العرب، و ناشئ عن تقليد الطقوس الكافرة القيصرية، و الكسرويّة، و تمدّنهما من جانب العرب في ذلك الوقت، و أنّهم كانوا يحبّون أن يقلّدوا المسيحية في صنع تماثيل القدّيسين الروحانيّين مثل:

الأنبياء و الملائكة و القسّيسين، واضعين لها في محاريب و أماكن مثل:

الكنائس و البيوت، عاكفين لها بالخضوع و الحبّ. و يمكن أن يشهد على ذلك ما في خبر عليّ بن جعفر بأنّه سأل أخاه عن مسجد يكون فيه كذا. «1»

و كذا يشهد على ذلك ما في صحيح مسلم. «2»

______________________________

(1). المصدر السابق.

(2). صحيح مسلم: 3/ 1670.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 23

عن مسلم بن صبيح قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل مريم، قال مسروق: هذا تمثال كسرى؟ فقلت: لا، هذا تمثال مريم ... إلخ. و على هذا تكون الرواية ناظرة إلى حرمة صنع التماثيل المقدّسة لا مطلق التماثيل، و إن كانت من ذوات الأرواح، سيّما مع عدم ظهور لفظ الروحاني في

مطلق ذوات الأرواح، حتّى مثل الحشرات، مع إمكان صدق ذوات الأرواح عليها.

الرواية الثالثة: قوله عليه السّلام في عدّة من الأخبار: من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها، و ليس بنافخ

. «1» سواء اقتصر فيها بالتكليف بالنفخ جزاء، أو أوعد فيها بالعذاب مثل ما رواه الوسائل عن الخصال عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول: ثلاثة يعذّبون يوم القيامة، من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها، و ليس بنافخ، و المكذّب في منامه يعذّب حتّى يعقد بين شعيرتين، و ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلى حديث قوم و هم له كارهون، يصبّ في أذنه الأنك، و هو الأسرب. «2»

و في أخبار أخر: «من صوّر صورة» بلا قيد من حيوان- كالرواية المتقدّمة آنفا- و لا تنافي بين المطلق و المقيد في المقام حتّى يلزم حمل المطلق على المقيّد، بل نأخذ بالمقيّد للقدر المتيقّن بالحكم، إن حكمنا به، و جريان أصل البراءة و الإباحة في غيره.

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2). الوسائل: 12/ 221، الباب 94 باب تحريم عمل الصور من أبواب ما يكتسب به.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 24

هذا و لكنّ محمّد بن مروان ضعيف غير ظاهر التوثيق لاشتراكه و مجهوليّته و ربّما يمكن أن يراد بالتصوير التمثيل. و من الصورة المجسّمة لما ذكرنا سابقا من كون النسبة بين التصوير و التمثيل أعمّ، و أخصّ. و يشهد على هذا قول عليّ عليه السّلام: أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم بكسر الصور. حيث إنّ مجرّد الرسم و النقش لا يلائم مع الكسر، و سيجي ء تتميم هذا عند التعرّض لرواية «من مثّل مثالا» و قول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و

آله و سلم في هدم القبور، و كسر الصور».

و لكنّ كلمة النفخ في أمثال هذه الروايات شاهدة على إرادة المجسّمة من الصورة. و وجه آخر يستفاد من كلمة النفخ أنّ الحكم مخصوص بالمجسّمة من ذوات الأرواح؛ و الإنصاف هذا لأجل ظهور عبارة «حتّى ينفخ» في أنّ الشي ء المصنوع و المصوّر لا ينقص شيئا إلّا الروح، و الشبهات التي أوردوها على الرواية لتعميم الحرمة للمجسّمة و غير المجسّمة من ذوات الأرواح خلاف الظاهر، لا يستحسنها الذوق السليم. و ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه: من أنّ مثل هذا لا يعدّ قرينة عرفيّة على تخصيص الصورة بالمجسّم، لأنّ المقصود من نفخ الروح تعجيز المصوّر و الممثّل، لعلّه منظور فيه. و كيف لا يعدّ قرينة، مع أنّ النفخ في جملة العبارة ظاهر في تمهيد الشي ء المماثل بحيث ينقص الروح فقط. و لذا يقال له معاتبة و تعجيزا يوم القيامة: انفخ فيه، و كمّله حيث عملت عمل الخالق.

و لكنّ ما يهمّنا في المقام أنّ قرينيّة النفخ- إن تنازلنا- لا

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 25

تدلّ على مبغوضيّة المنفوخ مطلقا. إذ يمكن أن تكون ناظرة إلى قضيّة تماثيل الأصنام و الشرك، و التقاليد غير المسلمة فهي لا تعمّ مطلق التمثال و المجسّمة فكيف بالصور؟ و الشاهد أنّ عناد هذا الأمر، و تضادّه مع الإسلام موجب للتحريم كما سيجي ء الإشارة إلى ذلك عند التعرّض لقول الصادق عليه السّلام: «من مثّل مثالا»، و قوله عليه السّلام: «ليس حيث ذهبتم إنّما عنيت بقولي: من مثّل مثالا، من نصب دينا غير دين اللّه، و دعا الناس إليه». و كذا عند التعرّض لحديث: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون». و مجرّد تصوير الصورة، و

تمثيل المثال لا ينافي مع الإسلام، و لا يكون إضلال الناس بغير علم كما في الرواية.

الرواية الرابعة: [صحيحة محمّد بن مسلم]

و هي التي أشار إليها الشيخ الأعظم قدّس سرّه بأنّها أظهر من الكلّ صحيحة محمّد بن مسلم سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر، و الشمس، و القمر، قال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان. «1»

و قد أفاد الشيخ قدّس سرّه: بأنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرّد النقش، و لعلّ هذا من جهة عدم معهودية لتجسيم و تمثيل الشمس و القمر، دون نقشهما و رسمهما. و لا ندري كيف يكون ذكر الشمس و القمر قرينة على مجرّد النقش؟! مع أنّ صريح الرواية السؤال عن تماثيل الشجر و الشمس، و ظهور التماثيل في المجسّمة؛ سيّما في لسان الروايات التي نقطع بإرادة المجسّمة من المثال في قبال الصورة

______________________________

(1). الوسائل: الجزء 12، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، كتاب التجارة، الحديث 3.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 26

و النقش، لو لا القرينة على الخلاف. فهذا التصريح أقوى من قرينيّة تلك القرينة. و ادّعاء ترادف المثال و الصورة خلاف أهل اللغة على ما أشرنا إليه، سيّما في زمن صدور الروايات، فإنّ التمثال كان يستعمل في قبال الصورة مثل عصرنا الحاضر، و ادّعاء أنّ الشائع من الصورة و المطلوب منها هي الصور المنقوشة دون مجسّمتها في زماننا هذا لعلّه ناشئ عن تهجير التماثيل، و إبعاد صنعتها عن المجتمع الإسلامي في القرون الإسلاميّة المتتالية. و منشأ هذا الشيوع المدّعى استيناس النفوس بالنقوش. و لكن في زمن صدر الإسلام و صدور الروايات كان خلاف ذلك. فهذا الادّعاء مردود لعدم معهوديّة للرسوم و النقوش من العرب بخلاف التماثيل و

المجسّمات و الأصنام.

و لنشر في المقام إلى ما وعدنا نقله سابقا، و هو نقل بعض مواضع من رواية مفصّلة منقولة في البحار عن تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي في حديث إراءة الأصنام للحسن عليه السّلام من قبل ملك الروم، في حديث بعث الحسن عليه السّلام و يزيد لعنه اللّه إلى ملك الروم و إحضارهما عنده.

و في الرواية: فلمّا نظر ملك الروم إلى الرجلين أخرجهما، ثمّ فرّق بينهما، ثمّ بعث إلى يزيد فأحضره، ثمّ أخرج من خزانته ثلاثمائة و ثلاثة عشر صندوقا فيها تماثيل الأنبياء، و قد زيّنت بزينة كلّ نبيّ مرسل، فأخرج صنما فعرضه على يزيد فلم يعرفه، ثمّ عرض عليه صنما صنما فلا يعرف منها شيئا، و لا يجيب منها بشي ء، و بعد عبارات في الرواية. فقال له الحسن عليه السّلام: سلني عمّا بدا لك ممّا تجده في الإنجيل، و عمّا في

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 27

التوراة، و عمّا في القرآن، أخبرك به إن شاء اللّه تعالى. فدعا الملك بالأصنام، فأوّل صنم عرض عليه في صفة القمر. فقال الحسن عليه السّلام:

فهذه صفة آدم أبي البشر. ثمّ عرض عليه آخر في صفة الشمس، فقال الحسن عليه السّلام: هذه صفة حوّاء أمّ البشر «1». و في الرواية عرض الأصنام بصفات الأنبياء على الحسن عليه السّلام. و الرواية طويلة مفصّلة، و هي مذكورة في البحار، فراجع. «2»

و ليس المقصود في المقام التمسّك بها و في اعتبارها، و الكلام في تفسير عليّ بن إبراهيم؛ و لكن الاستشهاد في أنّ جميع تماثيل الأنبياء كانت مودوعة في الصناديق المعهودة، و تلك التماثيل كانت أصناما، على صفات الأنبياء، و الاستشهاد بصنمين على صفة الشمس و القمر بصفة آدم و حوّاء.

و في الآثار الأثرية الموجودة اليوم في المتاحف نرى تماثيل و أصناما من الشمس و القمر، و هي شواهد على كون تماثيل الشمس و القمر بصورة التماثيل و الأجسام، سيّما بالنظر إلى وضعها في المحاريب المعهودة لسليمان كما سنشير إليه.

و لنرجع إلى الرواية الشريفة و صريحها أنّ: «في تماثيل الشجر، و الشمس، و القمر لا بأس» بلا فرق بين كونها بنحو المجسّمة، أو النقش. فإنّ عدم البأس في التمثال موجب لعدم البأس في التصوير

______________________________

(1). انتساب القمر إلى آدم و الشمس إلى حوّاء يذكرنا هذا الشعر المعروف:

فما للشمس التأنيث عار و لا التذكير فخر للهلال

(2). بحار الأنوار: 10/ 132.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 28

بالأولوية. و مفهوم منطوق الرواية «ما لم يكن شيئا من الحيوان» إذا يكن شيئا من الحيوان ففيه بأس، و حيث استثنى هذا من التماثيل، فمعناه إذا كان التمثال شيئا من الحيوان ففيه بأس. و هذا مجمل حتّى من حيث الكراهة لعدم ظهور لكلمة البأس لا في الحرمة، و لا في الكراهة و لكن حيث إنّ البأس لأجل بيان حكم شرعي فلا بدّ من أن يكون مضمونه بيان حكم شرعي من الشارع و لكن لا مجال لإثبات أزيد من الكراهة في المجسّمة فقط. و ما في المستند أنّ البأس حقيقة في الشدّة و العذاب، و هما في غير الحرام منفيّان. «1»

منظور فيه، لأنّ استعمال لا بأس في نفي المرجوحيّة و الكراهة شائع ظاهر، مع أنّه مقتضى الجمع بين الروايات.

و أمّا الإشكال في الرواية بعدم معلوميّة وجه السؤال لاحتمال كون السؤال عن اللعب بها- كما يشهد به رواية عليّ بن جعفر- أو عن اقتنائها، أو عن تزويق البيوت بها، أو عن جعلها في

البيت لعلّه خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر العرفي في أمثال المقام، حيث إنّ السؤال تعلّق بذات الشي ء- من دون قرينة على أمور أخر- هو السؤال عن صنعها، و عن بيعها، و شرائها تطفّلا على صنعها، بل الأظهر هو السؤال عن مجرّد صنعها لا غير.

و لقد أفاد الشيخ قدّس سرّه من أنّ الحكمة في التحريم حرمة التشبّه بالخالق في إبداع الحيوانات و أعضائها على الإشكال المطبوعة التي

______________________________

(1). المستند: 2/ 337.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 29

يعجز البشر عن نقشها على ما هي عليه فضلا عن اختراعها. و فيه أنّ لا سبيل لنا إلى إحراز أنّ حكمة الحكم هو التشبّه بالخالق. و من العجب ادّعاء تحقّق التشبّه بالخالق في تصوير الرسوم، و تمثيل التماثيل بالنسبة إلى ذوات الأرواح دون غيرها. و ما الفرق بينها؟ مع أنّ تصاوير مناظر الطبيعة الخلّابة، و رسم الأوراد و الزهور الجميلة في غاية المهارة و الجمال لا يفترق مع رسم ذوات الأرواح و تمثيلها، بل ربّما يكون أوقع في النفوس، و آخذ بمجامع القلوب و جوامعها، و أشدّ تشبّها بالخالق.

و لا يمكننا القول بحرمة رسم غير ذوات الأرواح، أو تمثيلها مطلقا حتّى مع قصد التشبّه بحكم الأدلّة الواردة. هذا مع عدم كون مجرّد تمثيل المثال، و صنع المجسّمات تشبّها بالخالق، و كون مجرّد التشبّه بالخالق ليس محرّما، بل مرضيّ و محبوب عند اللّه؛ و هو كمال الإنسان السالك إلى اللّه «عبدي أطعني حتّى أجعلك مثلي»، و تخلّقوا بأخلاق اللّه. «1»

و قد مدح اللّه تبارك و تعالى نفسه في سورة المؤمنين بقوله سبحانه: فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ. و إنّا نعلم و نعتقد بأن لا خالق إلّا اللّه تبارك و تعالى، مع أنّه سبحانه قد

أتى بلفظ الجمع، و صيغة التفضيل؛ و يلزم من ذلك أن يكون بين أفراد الإنسان و غيرهم خالقون متّصفون بحسن الخلق، حتّى يصحّ الإتيان بصيغة التفضيل.

و قد نسب سبحانه و تعالى الخلق إلى غيره مثل: عيسى بن مريم عليهما السّلام

______________________________

(1). بحر المعارف: 588، طبعة حكمت، قم.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 30

: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. «1»

و كثيرا ما نعمل و نأتي بعون و لطف من الخالق بعمل الخالق من الأسماع و الأبصار، و تركيب المفردات، و تفريد المركّبات، حتّى مثل قضيّة الخلق و الإنشاء و الإبداع. و لو أنّا لا نقدر على إيجاد شي ء مادّي، أو إعدامه؛ و لكن نقدر على إيجاد خواطر و نظرات في النفس، و إعدامها عن النفس بمقتضى اختيار الإنسان و إرادته في صقع نفسه؛ و لا مجال لأن نقول لأحد؛ لا تفرض وجودك في الروضات المقدّسة، و الأماكن المشرّفة، لأنّ خلق هذا الفرض في النفس خلق و إيجاد، و هو يشبه عمل الخالق، بل هو أشدّ شبها لأنّ التشبّهات الأخر تشبه صنعة الباري، و ليس من مقولة الخلق و الإيجاد من العدم. و هذا خلق و إبداع من العدم إلى الوجود، و سبحان من تنزّه عن مجانسة مخلوقاته.

هذا مضافا إلى أنّ وجه الحكمة هذا أخصّ من المدّعى لأنّ التشبّه بالخالق في صنع التماثيل يحتاج: إمّا إلى القصد، و صدق العنوان عرفا، أو الانتزاع العرفي قهرا. و تمثيل المثال إذا خلا من هذه العناوين فلا بدّ من أن لا يحرم. و من العجب ما أفاده الشيخ قدّس سرّه بقوله: ثمّ إنّه لو عمّمنا الحكم بغير الحيوان مطلقا، أو مع التجسّم، فالظاهر أنّ المراد به ما كان مخلوقا

للّه سبحانه على هيأة خاصّة معجبة للناظر على وجه تميل النفس إلى مشاهدة صورتها ... إلخ. فإنّ التعميم في الحكم ليس فيه فرقا بين إعجاب الناظرين و عدمه، و لا مجال، و لا منشأ لاستفادة هذا

______________________________

(1). المائدة: 110.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 31

التخصيص. و الإعجاب ينشأ عن مهارة النقّاش، و الرسّام، و الممثّل في نقشه و رسمه و تمثيله، و إن كانت بالنسبة إلى غير ذوات الأرواح.

الرواية الخامسة: قوله عليه السّلام: من جدّد قبرا، أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام

. «1» و لا يخفى أنّ التمثيل و المثال ظاهر في المجسّمة لا صورة محضة خصوصا من أجل التحفّظ على الممثّل الفاني المعدوم بصورة المثال، و التمثال مناسبا لتجديد القبر فلا تعرّض للتصوير في الرواية. و واضح أنّ النهي المستفاد من الرواية محمول على الكراهة قطعا للعلم بعدم حرمة تجديد القبر حرمة موجبة للخروج عن الإسلام، و ليس الزنا، و قتل النفس كذلك، فلا بدّ من الحمل على الكراهة الشديدة أخذا بما هو الظاهر من لفظ التجديد. و يعطف «أو مثّل مثالا» عليه في هذا الحكم، فلا يستفاد الحرمة في المثال، فكيف في الصورة؟ هذا، و لكنّ تعبير «فقد خرج عن الإسلام» تعبير تشديديّ غير مناسب للحمل على الكراهة، مع أنّ تجديد القبر مكروه. فلا بدّ من أن يكون المراد في الرواية بحيث يكون بين تجديد القبر، أو تمثيل المثال، و بين الخروج عن الإسلام مناسبة و ارتباط. مناسبة تضادّ مع الإسلام بعبادة الأصنام و جعل القبور معبدا أو مسجدا، و أخذ التماثيل للطقوس الدينيّة، و جعلها في المعابد و الكنائس، و هم لها عاكفون. و واضح أنّ تجديد القبر، و تمثيل المثال في خصوص هذه الصورة حرام لا مطلقا؛ حتى في

______________________________

(1). الوسائل: 3/ 562، الباب

3، الحديث 10.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 32

موارد كون المثال مثالا مجسّما لذي الروح من دون تنسّك و عكوف عليه.

و تناسب جعل القبور و التماثيل مسجدا، و معبدا رواية ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم في هدم القبور، و كسر الصور. «1»

و هدم القبور ليس من الواجبات و لا من المستحبّات، بل ربّما يكون مكروها، و غير جائز. و كراهة تجديد القبر غير استحباب هدمه، و انعدامه. و ظاهر الرواية يشير إلى سرّ الجمع بين القضيّتين المذكورتين في الرواية- أعني: هدم القبور و كسر الصور معا- و السرّ في ارتباط محرّم بين تلك القبور المهدومة، و تلك الصور المكسورة.

و قد أشرنا سابقا إلى أنّ كسر تلك الصور و التماثيل، لأجل اعتناء الناس بها اعتناء العبادة و الخضوع تشبّها بالمشركين عبدة الأصنام، و بالنصارى. و كذلك تلك القبور قد وصلت إلى حدّ تعظيم الناس لها، و السجدة عليها. و لو لا اتّخاذها قبلة و مسجدا- كما اتّخذ اليهود لعنهم اللّه ذلك- لما أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بهدمها. قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا. فإنّ اللّه عزّ و جلّ لعن اليهود، حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد. و لذا يناسب مثل هذا الهدم قضيّة كسر الصور و التماثيل.

و يشتركان في شعائر الكفر و الإضلال. و واضح أنّ الكسر يلائم الجسم. و هذا من الشواهد على إرادة المجسّمة من لفظ الصورة، و المجسّمة تلائم الصنميّة.

______________________________

(1). الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 7.

الرسائل

الفقهية (للنجومي)، ص: 33

و يشهد على ما ذكرنا ما في السفينة نقلا عن منية المريد عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا، أو قتله نبيّ، أو رجل يضلّ الناس بغير علم، أو مصوّر يصوّر التماثيل. «1»

و العجب اقتران تصوير التماثيل بقتل النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و إضلال الناس، الذين يرجعان إلى أصل الشريعة، و الإضرار بها، فلا بدّ من أن يكون تصوير التماثيل في عرض هذين الأمرين أمرا يرجع إلى الإضرار بالشريعة و الدّين، فيلزم أن يكون من قبيل نحت الأصنام، أو تقليد الكنائس، و ترويج الطقوس الكافرة القيصريّة و الكسرويّة. و من التعبير الواقع في هذه الرواية نقف على معنى الحديث: إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون. «2»

هذا مضافا إلى ما أفاده الإمام الخميني- قدّس اللّه نفسه الزكيّة- من أنّ في هذه الأخيرة احتمال آخر و هو أنّ المراد «بالمصوّرون» القائلون بالصورة، و التخطيط في اللّه تعالى، كما هو مذهب معروف في ذلك العصر. و نقول هذا الحمل مناسب لو لا ذيل رواية أخرى في المقام عن سعد بن طريف عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الذين يؤذون اللّه و رسوله هم المصوّرون، يكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح. «3»

______________________________

(1). سفينة البحار: 2/ 54.

(2). صحيح مسلم: 5: الجزء 12، كتاب اللباس و الزينة: 92- 93؛ و مسند أحمد بن حنبل: 1/ 375 و 2/ 26.

(3). الوسائل: 3/ 563، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 12.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 34

و ممّا يشهد على كلّ ما ذكرنا ما في سفينة البحار عن البحار عن معاني

الأخبار، عن ماجيلويه عن عمّه عن البرقي عن النهيكي رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: من مثّل مثالا أو اقتنى كلبا، فقد خرج من الإسلام، فقيل له: هلك إذا كثير من الناس!! فقال عليه السّلام: ليس حيث ذهبتم، إنّما عنيت بقولي: من مثّل مثالا من نصب دينا غير دين اللّه، و دعا الناس إليه، و بقولي: من اقتنى كلبا مبغضا لنا أهل البيت اقتناه فأطعمه، و سقاه، من فعل ذلك خرج من الإسلام. «1»

و غير خفيّ أنّ قتل الكلاب ليس واجبا، و إن كانت هراشة، و ربّما يكون حراما موجبا لضمان قيمتها لكونها حارسة معلّمة؛ فلا بدّ من أن يكون كلبا يجب قتله و إعدامه- كأن يكون كلبا، أو يكون بمعنى ما في الرواية الشريفة. و من هنا تقف على معنى قول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لعليّ عليه السّلام: «لا تدع صورة إلّا محوتها، و لا قبرا إلّا سوّيته، و لا كلبا إلّا قتلته». «2»

مع غضّ النظر عن عدم صلاحيته للاستدلال سندا.

و لنعد إلى ما مضى و لنشر إلى ما ادّعي من أنّ الروايات الواردة في المقام تشترك في نفي الصورة و التمثال، و النهي عنهما. فإن استفيد الحرمة يلزم الحكم في المقامين؛ و وجود قرائن على إرادة المجسّمة من التمثال لا ينافي سريان الحرمة إلى عموم الصورة أيضا لعدم التنافي.

و مع ذلك أفتى أغلب العلماء في خصوص الصورة بالكراهة. و قد أفاد

______________________________

(1). سفينة البحار: 2/ 523؛ بحار الأنوار: 72/ 220؛ معاني الأخبار: 181.

(2) الوسائل: 3/ 563، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 8.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 35

في المستند أنّ هذا كاشف عن قرينة دالّة على

أنّ المراد بالأخبار التي استند إليها إنّما هي الكراهة؛ مع أنّ مساق الروايات و التعبيرات الواردة فيها، و اقتران نهي تصوير الصورة بما ليس محرّما قطعا ترشدنا إلى الكراهة قطعا. و المقصود أنّ مقتضى التعبيرات الواردة المشتركة بين الصورة و التمثال الحكم بكراهة تمثيل المثال، و صنع التماثيل أيضا. إلّا أنّ الإجماع المدّعى في المقام حسب ما أشار إليه في الجواهر يمنع عن الحكم بالكراهة؛ و إن كان لنا مجال واسع في النظر إلى مثل هذا الإجماع لأنّه مدركيّ مستفاد من هذه الروايات و الأحاديث حسب ما فهمه الفقهاء- أعلى اللّه مقامهم الشريف- منها.

و على كلّ إن استفدنا الحرمة لا يمكننا الحكم بها في صورتي الصورة و المجسّمة، بل لا بدّ من تخصيصها بمقتضى القرائن الواردة، أو بمقتضى القدر المتيقّن بالمجسّمة من ذوات الأرواح دون غيرها.

و مع النظر في أصل قضيّة حرمة التمثال لا بدّ من الحكم بالكراهة في المقامين، و تخصيص حرمة المجسّمة بالموارد المشار إليها في أثناء الكلام.

ثمّ لا يخفى ورود روايات متعدّدة متكثّرة على كراهة وجود التماثيل، و الصور في البيوت و المساجد، و غيرها، و كذا كراهة الصلاة في تلك البيوت و المساجد. و قد علم في تلك الروايات طرق رفع الكراهات، كما أنّه حمل أكثر الروايات بمقتضى القرائن على المجسّمة، و على كلّ لا مجال لحمل ألفاظ النهي، أو البأس، أو لا تصلّ و غير ذلك

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 36

على الحرمة قطعا لإفادة الرخصة في روايات متعدّدة أخرى في هذه الموارد؛ فلا بدّ من حمل النهي على الكراهة قطعا، و المقصود أنّ الاستشهاد بمثل هذه الروايات على حرمة، أو عدم حرمة التجسيم، و التمثيل، و النقش و الرسم

لا يفيدنا شيئا بالنسبة إلى الحكم الابتدائي للمجسّمة و الصورة و النقش؛ فلا منافاة بين الحرمة الابتدائية، و بين الكراهة، أو الإباحة الاستداميّتين- كعدم المنافاة بين الكراهة الابتدائية، و الكراهة، أو الإباحة الاستداميّتين، إلّا أن يكون الإبقاء للشرك باللّه و عبادة الأصنام، أو تقليد الطقوس الكافرة. و في هذه الصورة يحرم الإبقاء- سواء كان الإيجاد الابتدائي محرّما، أو مكروها، أو مباحا لعدم المنافاة بين الإباحة الابتدائية و الكراهة، أو الحرمة الاستداميّتين. و سيجي ء ما يرتبط بالمقام مفصّلا في مسألة الاقتناء.

اشتراط حرمة التصوير أو التمثيل على تقدير القول بها بالإكمال

لا يخفى أنّ الحرمة لو تعلّقت على تقدير القول بها بتصوير الصورة، أو بتمثيل المثال فالظاهر من الجملتين «من صوّر صورة، أو مثّل مثالا» حرمة الاشتغال بها إذا انتهى إلى تحقّق متعلّق الحرمة، أعني:

الصورة و التمثال. كما أنّ الظاهر العرفي من:- لا تكتب سطرا أو لا تقل شعرا- حرمة الكتابة إلى حدّ السطر، و إنشاء الشعر بإتمام البيت و بإتمامهما ارتكب المحرّم كما هو الشأن في الإتيان بالمتعلّق المحرّم للارتكاب بالحرام. و المرجع في تحقّق الصورة، أو التمثال هو العرف،

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 37

فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأعضاء، إن صدق العنوان على الناقص صدقا عرفيا كصورة حيوان ذي أذن واحد، أو ذي عين واحدة؛ سيّما مع كونه بحيث قدّر الباقي موجودا مثل: مثال الإنسان الجالس. و أمّا لو صوّر الصورة الناقصة، أو مثّل المثال الناقص بحيث لم يصدق العنوان المحرّم عليهما، فلا حرمة فيهما، سيّما مع عدم قصد تحقيق العنوان المحرّم رأسا، أو عدم إكماله و إتمامه. فالاشتغال بتصوير البعض ليس بحرام، لأنّ الحرام انتهاء العمل و انجراره بتصوير الصورة، أو تمثيل المثال. نعم لو شرع و اشتغل بقصد الإتمام و الإكمال؛

لكنّه لم يكمّله و تركه، فليس هذا ظاهرا محرّما من باب التصوير، أو التمثيل. و هل هو محرّم من باب التجرّي، لو قلنا بحرمته كلّ على نظره؟

و لو بدا له في إكماله بعد و أتمّه، و أكمله بشخصه، فلا إشكال في الحرمة أيضا لكون المرتكب شخصا واحدا منتهيا عمله إلى الحرام- و لو أكمله آخر- فإنّ صدق عنوان المحرّم على فعل الثاني بأن مهّد الأوّل مقدّمات العمل مثل: نصب الرخام، أو الجصّ في محلّ التمثال، و لم يشتغل بنحته، أو صنعه؛ و أخرج الآخر التمثال، فالشخص الآخر مرتكب للمحرّم. و أمّا إن لم يصدق العنوان المحرم على فعل الثاني، فلا يحرم عمله.

اشتراك الاثنين في العمل

إنّ اشترك الاثنين بالتمثيل و التكميل معا حتّى تحقّق الحرام،

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 38

فالظاهر حرمة عملهما معا، لصدق العنوان على فعلهما، و عموم كلمة من يشملهما معا. و لا يكون في الرواية من مثّل مثالا بوحده و انفراده؛ و بشرط عدم اشتراك الغير معه مثل: إيجاد شي ء محرّم كآلات القمار، و الخمر و المسكر بعمل العاملين.

إن قلت: إنّ المبغوض في المثال هو نفس وجود الشي ء المحرّم- كالمسكر، و آلات القمار بخلاف ما في المقام. قلنا: إنّ هذه المبغوضيّة مستفادة من الحرمة التكليفية. و ما الفرق بين تعلّق الحرمة التكليفيّة في المقامين؟ إن قلنا بالحرمة، و ادّعاء أنّ هذا بعيد عن ظاهر اللفظ خلاف الإنصاف؛ و قياس المقام بالعام الاستغراقي و المجموعي، و ادّعاء استحالة الجمع بين العامّين بلحاظين متنافيين: لحاظ الشمول و الاستغراق، و لحاظ الوحدة المجموعيّة في غير محلّه. فإنّه لو قلنا بأنّ الشارع إذا أراد ذلك، و أراد توجيه التكليف إلى المكلّفين بنحو ذلك كيف السبيل إليه؟ مع أنّ هذا

المستشكل يعترف في آخر كلامه بقوله:

الإنصاف عدم نهوض الأدلّة لإثبات الحكم، أي: إثبات حرمة التصوير، و إن كان الاحتياط في الدين يقتضي التجنّب عنه، و لو بالاشتراك لذهاب بعض الأساطين إلى حرمته، إلى آخر كلامه- زيد في علوّ مقامه-.

نقول: بعد الاعتراف بتنافي اللحاظين المذكورين، و عدم إمكان الجمع بين لحاظي الوحدة و الشمول، إنّ تقسيم العام إلى قسمين استغراقي و مجموعي شاهد على أنّ مفهوم العام مفهوم مطلق قابل لأن

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 39

يلاحظ بثلاثة أنحاء: بنحو الإطلاق، أي عدم التقييد بقيد. و قابل لأن يلاحظ بقيد الاستغراق أو المجموع. فالعام و إن كان بالنسبة إلى أفراده عام و لكن من حيث تقيّده، أو عدمه يفترق بثلاثة أنحاء؛ مع أنّ هذا القائل معترف في كلامه بأنّ كلمة من و أمثالها من قبيل المطلق لا العام.

فلا يراد بها الأفراد فيمكن توجيه التكليف إلى مطلق المكلّفين الفاعلين، و عدم الرّضا بتحقّق المحرّم سواء كان بالانفراد، أو بالاشتراك، كما هو الأمر في صنع الصنم، و آلات القمار، و الخمر و المسكر، أو تهيئتها. و كذا الحال في قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. «1»

حيث استشكل في مفاده مطلقا، من حيث الاستغراق الإفرادي، أو المجموعي. و ما المانع أن يقول الشارع: «يا أيّها الذين آمنوا» سواء كنتم منفردين، أو مجموعين منضمّين، إذا عقدتم فأوفوا بالعقود»؟

و يستفاد هذا من إطلاق الكلام مثل ما ذكرنا في المقام.

أخذ التصوير بالآلات

ظهر من مطاوي كلامنا فيما سبق أنّ ثبوت الحرمة في المسألة- حتّى بالنسبة إلى المجسّمة و التمثال- محلّ تأمّل. و على تقدير القول بالحرمة لو قلنا بها، فالقدر المتيقّن منها في التمثال لظهور أكثر

______________________________

(1). المائدة: 1.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص:

40

الروايات في ذلك، أو لزوم حملها عليه و عدم حرمة التصوير- و لو بالنسبة إلى ذوات الأرواح. و الكلام فعلا في أخذ التصوير بالأفلام و الآلات. قال السيد الطباطبائي في حاشيته على المكاسب: لا فرق بين أنحاء إيجاد الصورة من النقش بالتخطيط، و بالحكّ، و بغير ذلك؛ فيشمل العكس المتداول في زماننا، فإنّه أيضا تصوير كما لا يخفى، فتدبّر. «1»

و الإنصاف أنّه لو قلنا بحرمة التصوير لا فرق بين المباشرة و التسبيب- كما هو الشأن في إيجاد سائر المحرّمات- و الإتيان بها في الخارج. و دعوى أنّ الظاهر من الأدلّة هو حرمة تصوير الصور، و تمثيل المثال، و هما لا يشملان إلّا المصنوع بيد الفاعل مباشرة، بمعنى صدور عمل التصوير منه و بيده كما ترى. حتّى لو لم يكن وجود الشي ء مبغوضا بأيّ نحو كان، بمعنى مبغوضيّة أصل الإيجاد، و الارتكاب، و الإتيان من المكلّف، كذلك لا فرق بين المباشرة و التسبيب. نعم ربّما يوجّه قضيّة التصوير في عصرنا الحاضر بالأفلام، و الآلات المتقدّمة المتطوّرة- إنّه إبقاء للصورة لا التصوير، كما أنّه لو نظر الإنسان في المرآة «و من المستحبّ المؤكّد ذلك» فعمل عملا أبقى تلك الصورة في المرآة، أو الكاغذ، أو الفلم فلا يسمّى هذا العمل رسما، و نقشا عرفا.

و لا إشكال في أنّ عرف اليوم يرى المصوّر «العكّاس» فنانا في قبال الفنّانين الآخرين من الرسامين و النقّاشين و النحّاتين، و معارض فنّ

______________________________

(1). حاشية الطباطبائي: ص 19.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 41

التصوير تفترق مع معارض الرسوم و المنحوتات. بيد أنّ الإنصاف أنّ العرف و العقلاء، و المتديّنين و المتشرّعين لا يرون فسادا في هذه الصور، و لا في اقتنائها و الاحتفاظ بها،

سيّما إذا كانت الصور المذكورة من عظماء الإسلام، و المذهب، و التاريخ فيشتاقون إلى رؤية وجوه العلماء و الأتقياء، و عظماء التاريخ و تصاويرهم، و كيفية ألبستهم و بزّتهم، و حتّى هياكلهم، و لو أمكنهم ذلك لكانوا يحتفظون بها كأنفس الأشياء و أثمنها. و في متاحف اليوم شعرات منسوبة إلى نبيّنا صلوات اللّه عليه، و يتبرّكون بزيارتها من وراء الحفاظ الزجاجي. كما أنّه من المسلّم جواز الإبقاء و اقتناء هذه الأشياء. و قالوا: إنّ صورة واحدة ربّما تكون أنطق من كتاب واحد. و هذه كلّها شواهد على أنّ هذه الأشياء، و حتّى الرسوم و التصاوير و المجسّمات لا تكون من الصناعة التي حرام هي كلّها، و يجي ء منها الفساد محضا- كما ورد في رواية التحف- مع غضّ النظر عمّا ذكرنا سابقا من عدم الملازمة بين الحكمين الابتدائي و الاستدامي في المسألة. و هذه شواهد أيضا على لزوم تجديد النظر في أصل المسألة حتّى بالنسبة إلى المجسّمة.

و ربّما احتاط شخص متطرّف، و سرى هذا الاحتياط إلى آخر بتطرّف أقوى. و كذلك قد أصبحت المسألة ممّا أبى عن تخلّفها المتديّنون، و لا يتجرّؤون على التخلّص من هذا الاحتياط خوفا من العوامّ و المتقدّسين. و قد يؤول الأمر إلى الفتوى بالحرمة احترازا عن التخلّف عن هذه السيرة- و كم له من نظير- سيّما في هذين القرنين

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 42

الأخيرين، حيث حمي سوق التقدّس، و التجاهل، و الاستعباد الفكري في قبال التديّن الحقيقي بمسائل الدّين، و التفقّه الحرّ عن السلائق الشخصيّة، و الإفراط و التفريط. فانظروا إلى ما نقله السيّد العلّامة نعم اللّه الجزائري رحمه اللّه في كتابه زهر الربيع و الشيخ الحرّ العاملي رحمه اللّه

في الفوائد الطوسيّة:

مسألة: ذهب بعض المتأخّرين و هو المولى علي نقي إلى تحريم التتن، و ربّما تبعه بعض المعاصرين، و استدلّ المولى بوجوه، و قد عدّ اثنى عشر وجها. منها: «الخامس: أنّه يشبه بالمزمار، و قد مرّ لا تسلكوا مسالك أعدائي» و سبحان اللّه مجرّد الشباهة غير موجب للاشتراك في الحكم، فكيف أنّ أصل وجود المزمار و اللعب به، و وضعه في الفم من دون إيجاد الموسيقى و الغناء به، ليس محرّما؟ فكيف بالمشبّه؟ و هذا هو الإفراط الخارج عن العادة. و هكذا باقي الوجوه المقامة في المسألة. و لا بأس بالإشارة إلى وجهين آخرين: السادس: إنّه تفأّل بِدُخٰانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النّٰاسَ، و التاسع: وجوب اجتناب أكل الرماد، فإنّ الدخان المذكور لا ينفكّ عنه قطعا، و إدمانه يدخل في الحلق غالبا. «1»

تصوير الملك و الجنّ

مسألة: في إلحاق تصوير الملك و الجنّ بالحيوان في الحكم.

______________________________

(1). زهر الربيع، طبعة النجف: 299؛ و الفوائد الطوسية: 224.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 43

قال العلّامة المامقاني في حاشيته على المكاسب: إنّه قال بعض الأساطين في شرحه على القواعد ما نصّه: و الأقوى إلحاق صورة الملك و الجنّ بالحيوان، انتهى. «1»

و في الجواهر: الظاهر إلحاق تصوير الملك و الجنّي بذلك، بل قد يقوى جريان الحكم في تصوير ما يتخيّله في ذهنه من صورة حيوان مشارك للموجود في الخارج من الحيوان في كلّي الأجزاء، دون أعدادها و أوضاعها مثلا. و تصوير البيضة، و العلقة، و المضغة، و بذر القزّ و نحو ذلك، ممّا هو نشوء الحيوان لا بأس به. انتهى. «2»

ربّما يقال بجواز تصوير الملك و الجنّ، و تمثيلهما و اختصاص الحرمة بالحيوان تمسّكا بذيل صحيحة محمّد بن مسلم: «لا بأس ما لم يكن شيئا

من الحيوان». «3»

و ربّما يقال بالحرمة، و إنّها مقتضى الإطلاقات الواردة المحرّمة لذلك؛ و لا يخفى أنّ مقتضى الإطلاقات على تقدير عدم اليقين بصدق الحيوان على الملك و الجنّ عكس ذلك، فإنّها تدلّ على الجواز ما لم يكن شيئا من الحيوان، أو ما لم يكن مثل الروحاني. ففي صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان. «4»

______________________________

(1). حاشية المامقاني: 72.

(2). الجواهر: 22/ 43.

(3). الوسائل: 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، كتاب التجارة، الحديث 3.

(4). المصدر السابق.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 44

و في عبارة تحف العقول: «و صنعة صنوف التصاوير، ما لم يكن مثل الروحاني» و مقتضى الحديثين جواز تصوير كلّ شي ء و تمثيله، ما لم يكن من الحيوان، أو ما لم يكن مثل الروحاني فمقتضى الإطلاقات الجواز.

و قيل: إنّ مقتضى صحيحة محمّد بن مسلم المذكورة جواز تصوير الملك و الجنّ، لأنّهما ليسا من الحيوان فيدخلان في إطلاقات الجواز؛ و لو شككنا في كونهما حيوانين، فلا بدّ من اندراجهما تحت تلك الإطلاقات المجوّزة، حتّى نعلم بكونهما من المقيّد، و لكنّ مقتضى رواية التحف جواز صنعة صنوف التصاوير، ما لم يكن مثل الروحاني، و عبارة الرواية: و أمّا تفسير الصناعات فكلّ ما يتعلّم العباد، أو يعلّمون غيرهم من صنوف الصناعات، مثل: الكتابة، و الحساب، و التجارة، و الصياغة، و السراجة و البناء، و الحياكة و القصارة، و الخياطة و صنعة صنوف التصاوير، ما لم يكن مثل الروحاني، و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد التي منها منافعهم، و بها قوامهم، و فيها بالغة جميع

حوائجهم فحلال فعله و تعليمه، و العمل به و فيه لنفسه، أو لغيره. «1»

و مقتضى مفهوم هذه الرواية نفي البأس، ما لم يكن مثل الروحاني و الملك و الجنّ داخلان فيه، فإنّ المراد من الروحاني ما كان فيه مبدأ الحياة، و يتّصف بها. و لهذا قالوا: إنّهما يموتان عند نفخ الصور

______________________________

(1). تحف العقول: 335.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 45

كما دلّ عليهما الأخبار؛ أو قلنا بأنّ الظاهر من الروحاني موجود غلبت عليه الجهة الروحيّة، و على كلّ يشمل الملك و الجنّ، و هما داخلان في عقد التقييد في الرواية، و مقتضاه عدم جواز تصويرهما و تمثيلهما.

فتحصّل أنّ في الحديثين خطابين عامّين باعتبار لفظة (ما) الدالّة على التوقيت، و تقييدان لهذين العامّين، و يقع تعارض ما بين التقييدين، لأنّ مقتضى منطوق صحيحة محمّد بن مسلم: أن لا بأس ما لم يكن حيوانا، و الملك و الجنّ ليسا منه، فيجوز تصويرهما؛ و مفهوم رواية التحف: أن لا بأس ما لم يكن مثل الروحاني. و الملك و الجنّ من الروحاني ففيهما بأس، و لا يجوز تصويرهما، و المثل الروحاني أعمّ من الحيوان. و محصّل الحديثين ورود المقيّدين لعموم الجواز أحدهما أعمّ، و الآخر أخصّ؛ و لكن لا تنافي بينهما حتّى نأخذ بالمقيّد، أو الخاصّ منهما، لأنّهما متوافقان غير متنافيين، فيجمع بينهما بالعمل- بهما معا، فلا يجوز تصوير الحيوان و الروحاني معا. و ممّا يسهّل الأمر في المقام أنّ التقييدين قد وردا في مقام التحديد، و كونهما غايتين بعد «ما» التوقيتيّة، و هذا لا يلائم الاختلاف و التعدّد، فلا بدّ من أن يكون المراد بهما شيئا واحدا، فيقال إنّ المراد بالروحاني خصوص الحيوان للظهور، و التفاهم العرفي، و على

هذا لا دليل على حرمة تصوير الملك و الجنّ. و يمكن أن يقال إنّ المصوّر و الممثّل- حيث إنّه يعمل على ما استفاده و ادّخره من حواسّه الظاهرة، فهو يصوّرهما على صورة حيوان ما- و لو تخييلا- و هي محكومة بحكم الحيوان. و من هنا تتبيّن مسألة أخرى لنا، و هي: أنّ

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 46

تصوير الصورة، و تمثيل المثال على فرض القول بالحرمة فيهما، أو في أيّ منهما لا يفرق بين تصوير صورة حيوان معهود للمصور، و موجود في الخارج، و بين تصوير حيوان نادر خيالي مفروض- كما إذا صوّر، أو مثّل حيوانا ذا رءوس عديدة و أجنحة كثيرة لإطلاق الروايات. ثمّ يزاد على ما ذكرنا في المقام بالنسبة إلى الملك و الجنّ ما أشرنا إليه سابقا: من أنّ تعبير مثل الروحاني يفترق مع ذوات الأرواح، فإنّ الأوّل أقرب إلى الملائكة، و الأنبياء و القدّيسين، بخلاف الثاني. و لذلك قلنا: لعلّه محمول على تمثيل المثل لأجل التعبّد و التقديس و جعلها في محاريب، و كنائس للطقوس الدينيّة، فإن كان تمثيل الملك و الجنّ لأجل هذا، فلا إشكال في حرمته، و كونه تشريعا في قبال الحقّ و الصواب.

و لا يخفى عليك أنّ الكلام في مثل المقام يطول بنا إن أردنا التعرّض بجميع أطراف المسألة- كقضية التعارض و التنافي بين المنطوق و المفهوم في الروايات، و أمثال ذلك- و لكنّها لا تحتاج إلى هذه الإطالة، حيث إنّ الحكم واضح بما ذكرناه، مع أنّ أصل الحرمة محلّ نظر و تأمّل- كما أشرنا إليه سابقا مفصّلا في روايات التمثيل- و من جهة أنّها فرع جواز الاعتماد على رواية التحف لإثبات الحكم؛ و هو منظور فيه أيضا،

و إن قلنا و أشرنا مرارا، بكونها متلقّاة بالقبول و العمل بها.

و في آخر الكلام تتميما للبحث ينبغي لنا التعرّض لما يتراءى أنّه العمدة في أدلّة الحرمة في المقام. و هي المستفيضة المشتملة على قوله:

«يكلّف أن ينفخ فيها، و ليس بنافخ» حيث إنّ غيرها مورد نظر

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 47

و إشكال كما ذكرنا سابقا. و أمّا المستفيضة المشار إليها فربّما يقال: إنّ الظاهر منها بمقتضى التكليف بالنفخ في تلك الصور إنّ نحو إيجادها بالتصوير و الخلق تمهيدا للنفخ أوّلا، و بنفخ الروح تتميما للتصوير و الخلق ثانيا. و بهذا يتحقّق التشبّه بالخالق جلّ شأنه. و أمّا مثل الملك و الجنّ، فليس الخلق فيهما كذلك، لأنّهما ليسا بموجودين ماديّين، حتّى يحتاجان إلى خلق المادّة أوّلا، و إلى نفخ الروح ثانيا، مثل الحيوان، بل خلقهما و إيجادهما دفعي- سواء قيل بكونهما مجرّدة، أم لا- فلا يكون فيهما نفخ روح كما في الحيوانات، فهما خارجان عن مساق الأخبار المعتمدة في حرمة عمل المجسّمات. و فيه بعد قبول هذا الظهور في التدريجيّة الأوّليّة، و الثانويّة كما اعترفنا به سابقا، أنّ الممثّل يمثّل الملك و الجنّ، حسب تخيّله و تصديقه، بأنّهما يتمثّلان بشكل ماديّ خارجيّ، و يتشكّلان بأشكال مختلفة. و هذا المقدار من التخيّل، و التصديق، و الإمكان كاف لتوجيه الحرمة، و تكليف النفخ إليه. فالظاهر من الروايات: تمثال موجود يكون قابلا لنفخ الروح فيه، و لو كان بنحو الملك و الجنّ، و سائر الأحياء من الإنسان و الحيوان، و لو تخيّلا، و اختلاف كيفية إيجاد الملك و الجنّ مع الإنسان و الحيوان لا يوجب عدم قابليّة الجميع لنفخ الروح.

الكلام في جواز الاقتناء

بقي الكلام في جواز اقتناء ما حرّم عمله

مثل: تماثيل ذوات

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 48

الأرواح، لو قلنا بالحرمة. و لا إشكال في جواز اقتناء ما يجوز عمله، مثل غير تلك التماثيل. قال في الجواهر: أمّا بيعها و اقتناؤها، و استعمالها و الانتفاع بها، و النظر إليها و نحو ذلك، فالأصل و العمومات و الإطلاقات تقتضي جوازه. و ما يشعر به بعض النصوص من حرمة الإبقاء- كأخبار عدم نزول الملائكة و نحوها- محمول على الكراهة، أو غير ذلك؛ خصوصا مع أنّا لم نجد من أفتى بذلك- عدا ما يحكى عن الأردبيلي من حرمة الإبقاء- و يمكن دعوى الإجماع على خلافه. «1»

و لقد قال الشيخ قدّس سرّه: إنّ المحكيّ عن شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي أنّ المستفاد من الأخبار الصحيحة، و أقوال الأصحاب عدم حرمة إبقاء الصور. انتهى. و قرّره الحاكي على هذه الاستفادة، و المقرّر الحاكي هو: صاحب مفتاح الكرامة أعلى اللّه مقامه. و يستفاد من كلام الشيخ، و كلام المحقّق الأردبيلي نفسه قدّس سرّه في شرح الإرشاد في المطلب الأوّل من المقصد الرابع من كتاب الصلاة فيما يصلّى فيه. «2»

عدم مخالفة الأردبيلي أيضا في قبال ذلك الإجماع المنقول. و لا نطيل الكلام في نقل كلمات الأعلام بعد تصريح صاحب الجواهر قدّس سرّه:

بأنّا لم نجد من أفتى بذلك. فينبغي لنا التعرّض للوجوه التي ذكرها الشيخ قدّس سرّه، لعدم جواز الاقتناء.

أوّلها: ما أفاده بقوله: إنّ الظاهر من تحريم عمل الشي ء

______________________________

(1). جواهر الكلام: 22/ 44.

(2). مجمع الفائدة و البرهان في شرح إرشاد الأذهان: 2/ 93.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 49

مبغوضية وجود المعمول ابتداء، أو استدامة. و يجيب هو نفسه فيما بعد:

بأنّ الممنوع هو إيجاد الصورة، و ليس وجودها مبغوضا حتّى يجب دفعه.

و يمكن استفادة

ذلك من صنعة صنوف التصاوير، حيث إنّ الحرمة قد تعلّقت على الصنعة لا الإبقاء و الاقتناء. أو قلنا بأنّ المبغوض إنّما هو التشبّه بالخالق- و هو يحصل بالتأثير- و لا مدخل للأثر بعد ذلك.

و لا يخفى أنّ الوجود و الإيجاد بالمعنى المصدريّ متّحدان خارجا مختلفان اعتبارا. و إذا تعلّق حكم بأحدهما يتعلّق بالآخر للملازمة العرفية، لو لا القرينة على خلافه. و لذا يرى العرف أنّ الصنعة، أو التشبّه بالخالق إن كان حراما فالمصنوع و المتشبّه به حرام أيضا. و معنى حرمة المصنوع و المتشبّه به: حرمة الأفعال، و الآثار العرفية الاختيارية المتعلّقة بهما، و منها الاقتناء.

و لكن المدّعى في المقام و العمدة في الكلام عدم الملازمة العرفية بين مبغوضيّة الإيجاد و الإبقاء؛ كما يشهد على ذلك ورود الروايات الكثيرة على جواز الإبقاء و الاقتناء، و عدم وجوب إمحاء تلك التماثيل.

نعم لو فهم العرف تلك الملازمة- كما في حرمة تنجيس المسجد- ابتداء، حيث يدري أنّ تلك الحرمة لأجل التحفّظ على قداسة المسجد، و عدم جواز هتكه- و لو إبقاء- فيشمل الحكم إبقاء أيضا، و يكون الدليل على حرمة تنجيسه دالا على وجوب التحفّظ على طهارته بقاء، و وجوه تطهيره استدامة.

و ما أشرنا إليه: أنّ العمدة في المقام عدم الملازمة العرفية لأجل

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 50

الإشارة إلى عدم مجال لادّعاء ثبوت الملازمة العقلية، فإنّ عدمها أمر مسلّم لا إشكال فيه، و لا ينبغي لأحد أن يدّعي ثبوت الملازمة العقلية بين الابتداء و الاستدامة من جهة الحكم الشرعي.

و بهذا يظهر عدم مجال لما استشكله و نقضه الفاضل المحشيّ الإيرواني في المقام من حرمة الزنا ابتداء، و عدم وجوب إتلاف ولد الزنا بل حرمة إتلافه بقاء و

استدامة. «1»

و مدّعي وحدة الحكم ابتداء و استدامة في أمثال المقام يدّعي الملازمة العرفية بينهما، و الإنصاف ذلك- لو لا القرينة على خلافه.

و قد ذكرنا: أنّ التعبيرات الواردة، و الروايات الكثيرة الدالّة على جواز الإبقاء، و الاقتناء، و الاستفادة أدلّة على اختلاف الحكمين الابتدائي، و الاستدامي، و هذه الروايات و التعبيرات الواردة قرائن كثيرة على أنّ المبغوض و المحرّم هو المعنى المصدري للمحرّم، لا الوجود البقائي.

و ما ذكرناه من الملازمة العرفية بين الحكمين الابتدائي و الاستدامي نظر عرفي ما دام لم ترد من الشارع قرينة، و بورود القرينة ينعطف نظر العرف و الأذهان إلى ما أراد الشارع من التفكيك بين الحكمين إيجادا و وجودا. و بما ذكرنا: يظهر أنّ جواز الإبقاء المستفاد من الروايات لا يستلزم جواز الابتداء و الإيجاد أيضا.

______________________________

(1). حاشية الإيرواني على المكاسب: ص 22.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 51

و ننتقل في المقام إلى الأخبار التي قيل بدلالتها على المنع، منها:

صحيحة محمّد بن مسلم، سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر، و الشمس، و القمر. قال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان. «1»

بدعوى أنّ الظاهر من سؤال الراوي عن التماثيل؛ سؤاله عن حكم الفعل المتعارف المتعلّق بها العامّ البلوى به و هو الاقتناء، و قد أجاب الشيخ قدّس سرّه عنه: بأنّ السؤال عن الاقتناء غير ظاهر، لأنّ عمل الصور مركوز في الأذهان. و السؤال عن حكم الاقتناء بعد معرفة حرمة العمل، إذ مع عدم حرمة أصل العمل ابتداء لا يحتمل حرمة الاقتناء.

و غير خفيّ أنّ التعبير في الرواية لو كان مثل «صنعة صنوف التصاوير»، بمعنى وقوع السؤال عن أصل الصنعة كان ظاهر العبارة- السؤال عن أصل العمل و إيجاده.

و في المقام ليس كذلك، لأنّ السؤال وقع عن تماثيل الشجر و الشمس. و ظاهر السؤال إن لم يكن عن الاقتناء لكان مجملا من جهة أصل العمل، أو الاقتناء، أو كليهما.

و لكنّ الإنصاف أنّ النفس تميل إلى قبول ظهور الكلام في السؤال عن أصل العمل، بشاهد أنّ الأسئلة الكثيرة التي ارتبطت في الروايات بالتماثيل و الصور قد اقترن كلّ واحد منها بقرينة دالّة على قضيّة الاقتناء و الإبقاء. فالسؤال إنّما تحقّق بعد أصل العمل، و بعد فرض أصل التحقّق، بخلاف المقام، حيث إنّ السؤال وقع عن نفس تماثيل

______________________________

(1). الوسائل: الجزء 12، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، كتاب التجارة، الحديث 3.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 52

الشجر و الشمس و القمر، بلا قرينة على الإبقاء و الاقتناء. و على كلّ غاية ما يستفاد من «لا بأس» ثبوت البأس في الصور المجسّمة إيجادا، أو إبقاء و هو أعمّ من الحرمة- مضافا إلى صراحة أخبار أخر في الجواز.

و من تلك الوجوه المقامة لحرمة الاقتناء قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول: إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا، و لا يكون منه و فيه شي ء من وجوه الصلاح، إلى قوله عليه السّلام: يحرم جميع التقلّب فيه. «1»

و قد أفاد الشيخ قدّس سرّه: أنّ ظاهره: أنّ كلّ ما يحرم صنعته- و منها التصاوير- يجي ء منها الفساد محضا، فيحرم جميع التقلّب فيه بمقتضى ما ذكر في الرواية بعد هذه الفقرة. و قد أجاب عنه رحمه اللّه: أنّ الحصر في الرواية بقرينة الفقرة السابقة منها الواردة في تقسيم الصناعات إلى ما يترتّب عليه الحلال و الحرام، و ما لا يترتّب عليه إلّا الحرام إضافي بالنسبة إلى هذين

القسمين، يعني: لم يحرم من هذين القسمين إلّا ما تنحصر فائدته في الحرام، و لا يترتّب عليه إلّا الفساد، بمعنى: أنّ الحرمة إنّما تعلّقت بما يترتّب عليه الفساد محضا، فيحرم جميع التقلّب فيه- دون ما يكون فيه الفساد و الصلاح معا و ترتّب حرمة جميع التقلّب في الحرام في الصورة في قبال الصورة الثانية. و لكن في المقام صورة ثالثة ليست في الموردين المحصورين المذكورين، و هو القسم الثالث منها، و هي الصناعة التي يكون عملها مبغوضا، و متضمّنا للفساد من دون ترتّب

______________________________

(1). تحف العقول: 335.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 53

فساد على إبقائها و اقتنائها، و جميع التقلّب فيها.

و لكن صريح الرواية: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا، و لا يكون منه و فيه شي ء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه، و تعلّمه، و العمل به» بمعنى أنّ الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا- مثل البرابط و المزامير، و الصلبان و الأصنام- حرام بجميع شئونها. و هذه هي الضابطة و العلّة للحرمة المطلقة. لا أنّ الحرمة إذا تعلّقت بشي ء، و صناعة تكشف عن الفساد المحض في المتعلّق، بل يمكن أن يكون الشي ء ذا وجوه فساد و صلاح يكون هو بالنسبة إلى وجوه الصلاح محلّلا، و بالنسبة إلى وجوه الفساد محرّما.

و مثل هذا الشي ء ليس فيه الفساد محضا ليكون محرّما بجميع شئونه، و لا يحتاج بعد إلى قضيّة كون الحصر إضافيّا، أو حقيقيّا. و قد أشرنا إلى ذلك في منعقد الكلام في أوّل الرسالة.

و من الوجوه المقامة لعدم جواز الاقتناء، ما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه

السّلام: بعثني رسول اللّه إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها، و لا قبرا إلّا سوّيته، و لا كلبا إلّا قتلته. «1»

قال الشيخ قدّس سرّه: إنّ سياق النبويّ ظاهر في الكراهة، كما يدلّ عليه عموم الأمر بقتل الكلاب، و قوله عليه السّلام: في بعض هذه الروايات و لا

______________________________

(1). الوسائل: 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 8.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 54

قبرا إلّا سوّيته. و من الواضح أنّ سياق الرواية بمقتضى عموم الحكم في الصورة، و القبر، و الكلب لا يلائم، مع استحباب محو الصور و تسوية القبور و قتل الكلاب، و مع كراهة الإبقاء عليها، لأنّ القبر و الكلب يمكن أن يكونا مملوكين ذوي ماليّة للغير، و يكون إعدامهما غير جائز، و لا تسوّغه الكراهة. و حمل الرواية على خصوص موارد الجواز خلاف الظاهر. و لكنّ روايات الرخصة، و جواز الإبقاء على تلك الأمور مجوّزة، و قرائن على حمل النهي في هذه الرواية، و أمثالها على خصوصيّة كانت من جانب الأمير صلوات اللّه عليه في هذه السفرة، أو السفرة إلى اليمن لا في أسفاره الأخر؛ و لا بلفظ عام في جميع السفرات، و لا بلفظ عام بالنسبة إلى جميع المكلّفين. نعم في البحار: أنّه قد ورد نحوه من طريق أبي الهياج قال: قال عليّ عليه السّلام: أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

لا ترى قبرا مشرفا إلّا سوّيته، و لا تمثالا إلّا طمسته. «1»

و الظاهر أنّ الخصوصيّة المذكورة ليست في جميع الأسفار، و لا في جميع المسافرين، بل في السفرة الأولى إلى ديار الشرك و الكفر. و هي شاهدة إلى أنّ تلك الخصوصيّة

كون التصوير أصناما، و الكلاب مؤذيات، و القبور معاهد و معابد، أو مسنّمات، و يشهد على التسنيم ما تقدّم في الرواية، و لا ترى قبرا مشرفا إلّا سوّيته. و يمكن حمل هذه الموارد على مثل ما ورد فيما قدّمناه من قول الصادق عليه السّلام: إنّما عنيت بقولي: من مثّل مثالا من نصب دينا غير دين اللّه و دعا النّاس إليه،

______________________________

(1). بحار الأنوار: 82/ 18.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 55

و بقولي: من اقتنى كلبا مبغضا لنا أهل البيت، اقتناه، فأطعمه، و سقاه، من فعل ذلك خرج من الإسلام.

و من تلك الوجوه لعدم جواز الاقتناء، ما عن قرب الإسناد بسنده عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن التماثيل هل يصلح أن يلعب بها، قال: لا. و قال الشيخ قدّس سرّه: لا يدلّ إلّا على كراهة اللعب بالصورة و لا نمنعها، بل و لا الحرمة إذا كان اللعب على وجه اللهو.

و لا يخفى أنّ في رواية عليّ بن جعفر عن أخيه قال: و سألته عن البيت فيه صورة طير، أو سمكة، أو شبهه يلعب به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: لا، حتّى يقطع رأسه، أو يفسده. سيجي ء تفصيل الرواية و التعرّض لمفادها، و نشير في المقام إلى عدم شبهة في تقرير الرواية للعب أهل البيت بالتماثيل، و تجويزها ذلك. فجواز الإبقاء و اللعب بها مفروغ عنهما، فلا بدّ من حمل الرواية على الكراهة.

و من تلك الوجوه، ما ورد في إنكار أنّ المعمول لسليمان- على نبيّنا و آله و عليه السّلام- هي تماثيل الرجال و النساء. فقد ورد في تفسير قوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ. «1»

قول الإمام عليه

السّلام: و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه. «2»

______________________________

(1). سبأ: 13.

(2). الوسائل: 12/ 219، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 56

فإنّ هذا الإنكار يرجع إلى مشيّة سليمان للمعمول- كما هو ظاهر الآية- دون أصل العمل. فدلّ على كون مشيّة وجود التمثال من المنكرات التي لا تليق بمنصب النبوّة. و قال الشيخ قدّس سرّه: ظاهر تفسير الآية رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان عليه السّلام لعملهم، بمعنى إذنه فيه، أو إلى تقريره لهم في العمل. و الإنصاف أنّ ظاهر الآية الشريفة يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ للاقتناء. و لا يخفى أنّ تصدّي الإمام سلام اللّه عليه للدفاع عن سليمان بالنسبة إلى الاقتناء مشعر بأنّ الاقتناء المذكور غير لائق بشأن سليمان عليه السّلام. و غاية هذا كراهة مثل هذا الاقتناء، أي: اقتناء تماثيل الرجال و النساء مكروها- دون اقتناء تماثيل الشجر و شبهه- و قد ذكرنا سابقا: أنّ كلمة التمثال ظاهرة في المجسّمة، لو لا القرينة على خلافها.

و بهذه المناسبة نشير إلى أنّ في التمدّن القديم كان يبنى أقواس و محاريب، و تجعل فيها تماثيل و مجسّمات من القدّيسين، أو الفنّانين و المشاهير؛ و لم يكن من المعهود أن تعمل الصور المجسّمة من غير ذات الأرواح إلّا في القرون المتأخّرة، و هذا أيضا شاهد على كون المراد من التماثيل مجسّمات لا صور محضة. و من تفسير الإمام الصادق عليه السّلام:

ينحصر المحظور في خصوص مجسّمة ذوات الأرواح. و قول الشيخ قدّس سرّه قبل هذا: إنّ الظاهر شمولها للجسم و غيره- لعلّه منظور فيه، بل الظاهر هي الأجسام لا غير.

و غير خفي ورود روايات كثيرة في الوسائل

و مستدركها في كتاب

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 57

الصلاة من أبواب لباس المصلّي، أو مكانه تتعرّض للستور و الوسائد و الأثواب، أو وجود التماثيل و الصور؛ و قد سئل المعصوم عليه السّلام عن وجودها في البيت، و عن الصلاة معها، و عن اللعب بها، سواء قلنا بظهور بعضها في المصوّرات، أو في المجسّمات، أو مطلقات تشملهما.

و يستفاد من تلك الروايات كراهة وجود الصور و التماثيل في البيوت؛ سيّما إذا كانت في جهة القبلة، و كذا كراهة الصلاة مع تلك الصور و التماثيل، و إن كانت في غير البيوت مثل: المسجد أو غير المسجد، كما يستفاد الإطلاق من صحيحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلّي و التماثيل قدّامي، و أنا أنظر إليها؟ قال: لا، اطرح عليها ثوبا، و لا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك، أو خلفك أو تحت رجلك، أو فوق رأسك، و إن كانت في القبلة، فألق عليها ثوبا و صلّ. «1»

و على كلّ يستفاد من جميع هذه الروايات جواز الإبقاء، و اقتناء الصور و التماثيل. و عدم ورود الأمر بمحوها رأسا، و عدم حرمة الإبقاء عليها، بل كلّ رواية تعلّمنا طريقا لرفع الكراهة، و بعضها مصرّحة بالجواز؛ و الكراهة المستفادة مخصوصة بكون التماثيل و الصور في البيوت، أو في المسجد، أو مصاحبة مع صلاة المصلّي. و أمّا جواز الإبقاء و الاقتناء بلا كراهة في غير هذه الموارد مستفادة من الروايات، بل مصرّحة بها. و نقل جميع الروايات الواردة قد يطول بنا. و ما أحسن

______________________________

(1). الوسائل: 3/ 461، أبواب مكان المصلّي، الباب 32، الحديث 1.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 58

ما قاله السيّد الطباطبائي قدّس سرّه، لو

لا ذيل كلامه: الإنصاف أنّ ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في ذلك الباب، و في باب لباس المصلّي في كراهة الصلاة في ثوب فيه تماثيل، أو درهم كذلك توجب القطع بعدم حرمة الإبقاء بالنسبة إلى غير المجسّمة، و القريب من القطع بالنسبة إليها، فلا ينبغي التأمّل في الجواز. «1»

و قد عرفت من مطاوي الكلام أنّ القطع بحرمة المجسّمة في صورة ترتّب الفساد المحض عليها.

و من الجدير أن نشير هنا إلى ما ذكرنا سابقا: أنّ العرف يرى الملازمة بين الحكمين الابتدائي و الاستدامي نظرا إلى ظواهر الأحاديث و الروايات الواردة، مع عدم لزوم هذه الملازمة بنظر العقل، و إمكان الحرمة الابتدائية، و الإباحة الاستدامية بالقرينة. و الإنصاف أنّ الذوق العرفي يأبى عن الحكم بحرمة الإيجاد ابتداء مع القطع بجواز الإبقاء، و سائر التقلّبات بعد الإيجاد. و هذا من الشواهد القويّة على أصل جواز العمل ابتداء.

ثمّ إذا جاز الإبقاء و الاقتناء- يجوز البيع و الشراء و الإهداء، و سائر التقلّبات بمقتضى القواعد المقرّرة. و قلنا: إنّ حرمة الشي ء بجميع الجهات و التقلّبات مختصة بموارد الفساد المحض، حتّى لو قلنا بحرمة الإيجاد ابتداء فإنّه في هذا الفرض يحرم أخذ الأجرة على إيجاد المحرّم-

______________________________

(1). حاشية الطباطبائي على المكاسب: 22.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 59

بخلاف أخذ الأجرة للتحفّظ عليه- و يجوز بيع الصور، أو التمثال لكونه مالا، و ربّما يكون من أنفس النفائس؛ و بهذه المناسبة و العلّة تتصاعد و تتنازل قيمته حسب مهارة الصانع و الفنّان، و المصوّر و الرسّام و المجسّم، بحيث ربّما يبذل في قبال صورة مصوّرة أبهض الأثمان و أغلاها، و يترتّب على هذا ضمان المالية في صورة إتلافها، أو إيراد النقص عليها. و ممّا لا شكّ

فيه إنّنا نشتاق إلى زيارة العلماء المتقدّمين، و الأوتاد الكاملين و حتّى الأئمّة الطاهرين بتصاويرهم. كما أنّ بأيدينا صورتين من صلاتي الجماعة في أحدهما: أمام الجماعة سيّد هاشميّ جليل القدر، و اختلف فيه أنّه السيّد المجدّد الشيرازي، أو السيّد إسماعيل الصدر. و في الأخرى: إمام الجماعة شيخ جليل القدر، و اختلف فيه أنّه المولى الجليل الآخوند الملّا فتح علي السلطان آبادي، أو الآخوند الملّا قربان علي الزنجاني. و لا شكّ أنّنا نشتاق إلى معرفة صاحبي الصورتين كمال الاشتياق. فكيف يمكن أن يقال بوجود الفساد، و سبب الحرمة في الصورة و التمثال؟

و من المعلوم جدّا أنّ الاعتناء، و تقويم القيم و الأثمان الغالية التي تقدّر بها الصور و التماثيل- إنّما هي بلحاظ الصورة و المثاليّة، لا المادّة المحضة المجرّدة. نعم إن كان التمثال ممّا يعصى اللّه تبارك و تعالى به- بحيث صار محلا للفساد المحض كالصلبان و الصنم، و تماثيل القدّيسين التي توضع في الهياكل و الكنائس و الأديرة للشرك، و العبادة الباطلة و الطقوس الدينيّة المشركة؛ فصنع مثل هذا التمثال و بيعه

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 60

و شراؤه، و إبقاؤه و اقتناؤه لأجل هذه الأمور المحرّمة حرام. و لكنّ التحفّظ عليها- حتّى التحفّظ على صنم معروف كاللّات و العزّى للاستخفاف و الإرادة بمجتمع راشد راق ذي عقل رقيّ، ليعتبر بحضاضة عبدة الصنم، و سخافة عقولهم جائز، بل راجح و ليس فيه فساد.

و في الختام نشير بإجمال إلى مسألة و هي: أنّه لا إشكال في جواز النظر إلى ما هو حرام في نفسه مثل: آلات القمار، و الخمر و المسكر، و القتل و التعذيب و غيرها. بمعنى أنّه ليس من الأحكام و الآثار المترتّبة على هذه

الموضوعات المحرّمة حرمة النظر إليها؛ إلّا أن يكون نفس النظر إلى موضوع حراما شرعا، و ربّما لا يكون ذلك الموضوع حراما و لا مكروها في حدّ نفسه، مثل النظر إلى عورة الغير؛ فالعورة محلّ تعلّق الأحكام الخمسة التكليفيّة، و لكنّها متوجّهة إلى صاحب العورة دون الناظر الذي ربّما ينظر من دون التفات من صاحب العورة. ففي هذه الصورة يحرم النظر إلى العورة سواء التفت صاحب العورة إلى هذه النظرة المحرّمة، أم لا.

فلا ريب إذا في جواز النظر إلى الصورة و المجسّمة و التمثال، حتّى في صورة كون الناظر مخالفا لذي الصورة و المثال في الذكوريّة و الأنوثيّة، لعدم الدليل على الحرمة و الرجوع إلى البراءة، حتّى لو كان النظر موجبا للافتتان و الالتذاذ مثل: تمثيل ذي الصورة و المثال في الخيال التذاذا بها.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 61

نعم إن كان النظر علّة تامّة للوقوع في الحرام، أو كان النظر إلى صورة أجنبيّة معلومة مصونة محترمة، أو إلى تمثالها موجبا للهتك، و إيذاء صاحب الصورة و التمثال؛ بحيث يرى العرف أنّه نظرة شيطانية التذاذا و تعرّضا للنواميس المحترمة، فلا يبعد الحكم بالحرمة في هذه الصور، و حرمة النظر حينئذ بخصوصها ليس من جهة النظر إلى الصورة و التمثال.

و آخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.

هذا ما سنح بخاطر العبد المفتقر إلى رحمة اللّه و تأييده مرتضى الحسيني النجومي في المسألة.

و اللّه العالم بأحكامه.

و كتبت الرسالة بتلخيص و استعجال، و نستغفر اللّه من الزلل حامدا له و مصلّيا و مسلّما على سيّد رسله محمّد و آله الطيّبين الطاهرين أوّلا و آخرا.

1414 هجريّة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 62

رسالة في نجاسة الخمر و المسكرات

اشارة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 63

[المقدمة]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ و الصّلاة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله الطيّبين الطّاهرين و اللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين.

وجّهت دعوة مباركة إليّ للمشاركة في المؤتمر المزمع عقده تبجيلا و تكريما بحقّ المحقّق المقدّس المولى أحمد الأردبيلي قدّس اللّه تعالى سرّه فرأيتها من ألطاف اللّه و عنايته بالنسبة لي و المفترض عليّ تلبيتها تقديرا و امتنانا. و حيث إنّ هذا المولى المقدّس تصدّر و تفرّد في المتأخرين بالفتوى بطهارة الخمر و تبعه بعض القلائل القائلين بهذا القول مثل المولى محمّد أمين بن محمّد شريف الأسترآبادي رحمه اللّه و ألّف رسالة وجيزة في ذلك و كم فيها تشنيع و تحابس على علمائنا الأكارم و الرّسالة موجودة ضمن مجموعة خطيّة في ...

و ردّ السيّد نظام الدّين أحمد بن زين العابدين العلوي العاملي

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 64

المذكور في الرّوضة النّضرة في علماء المائة الحادية عشرة «1» على الأمين بتأليف رسالة في نجاسة الخمر و هي موجودة في مكتبة العلّامة المغفور له آية اللّه المرعشي ضمن مجموعة خطيّة. «2»

و هذه الفتوى سبّبت قيام العلماء و الفضلاء بتأليف رسائل في نجاسة الخمر حتّى ردّ تلميذ هذا المولى المكرّم الأمير فضل اللّه بن محمّد الأسترآبادي أستاذه بتأليف رسالة مستقلّة في المسألة و كذا القاضي نور اللّه بن شريف الحسيني المرعشي التستري الشهيد 1019 برسالة في نجاسة الخمر فأحببت التعرّض لهذه المسألة فجاء بحمد اللّه رسالة مختصرة مبذولة جهود في تأليفها و تنسيقها و إن هي لا تخلو من نقص و نظر و لكن المأمول أن تتقبّل بقبول حسن إن شاء اللّه.

و

تمهيدا للورود في المسألة نشير إلى انّ الأمين الأسترآبادي قد ركّز نظره و كلامه في خصوص تعارض الرّوايات الواردة في الطّهارة و النّجاسة و رجّح روايات الطّهارة على معارضتها تمسّكا بمخالفتها لقول العامّة القائلين بنجاسة الخمر و غضّ نظره عن الكتاب و عن المجمع عليه أو شبهه في المسألة. مع انّ ظاهر الوظيفة الواردة في باب ما يعالج به تعارض الرّوايات من الجمع و التّرجيح و غيرهما انّ التّرجيح في الرّتبة الأولى بموافقة الأمرين الكتاب و المجمع عليه و ترك العمل بما خالف الكتاب و الشاذّ و غير المجمع عليه و في بعض

______________________________

(1). ص 27- 30.

(2). فهرست المرعشي، ج 19، ص 405، 4/ 7591.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 65

الرّوايات قدّم الكتاب على المجمع عليه و في بعض آخر قدّم المجمع عليه على الكتاب. فاللّازم الأخذ ابتداء بما وافق كتاب اللّه و طرح ما خالفه على ما نطق به القرآن الحكيم أيضا بقوله العزيز: وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ إِلّٰا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. «1»

و قضيّة لزوم الأخذ بما خالف العامة بعد الكتاب و المجمع عليه، استرشادا بمضمون الرّوايات الواردة انّ المتعارضين لو كانا متوافقين مع الكتاب تصل النوبة إلى الأخذ بما خالف العامّة ففي رواية داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة و إن كانت الرّواية في شأن الحكمين الناظرين في حقّ المتخاصمين ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه أصحابك فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك فانّ المجمع عليه لا ريب فيه. ثمّ بعد جملات يقول عمر بن حنظلة: فإن كان الخبران عنكم

مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامة أخذ به. قلت: جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة و الآخر مخالفا لها بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال:

بما يخالف العامّة فانّ فيه الرّشد. «2»

و في مرفوعة زرارة بن أعين: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك

______________________________

(1). سورة النحل/ 64.

(2) جامع أحاديث الشيعة، مج 1، المقدّمات، ص 62.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 66

و دع الشاذّ النادر. «1»

و في المستدرك عن الشيخ المفيد في رسالة العدد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن فإن لم تجدوا لهما شاهدا من القرآن فخذوا بالمجمع عليه فانّ المجمع عليه لا ريب فيه فإن كان فيه اختلاف و تساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامّة. «2»

و في رسالة سعيد بن هبة اللّه الرّاوندي في أحوال أحاديث أصحابنا بسنده عن محمّد بن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: قال الصّادق عليه السّلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فأعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه و ما خالف أخبارهم فخذوه. «3»

و بعد هذه المقدّمة نقول: انّ مقتضى الأدلّة الواردة نجاسة الخمر بلا إشكال و ممّا ادعى عليها الإجماع و لا اشكال انّها المشتهرة بين فقهائنا بل فقهاء المسلمين عموما. و في الجواهر: انّ الأظهر و المشهور نقلا و تحصيلا قديما و حديثا بيننا و بين غيرنا شهرة كادت تكون إجماعا، بل هي كذلك النجاسة و ادّعى الإجماع على النجاسة جماعة

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة، مج

1، ص 62.

(2). جامع أحاديث الشيعة، مج 1، المقدّمات، ص 63.

(3). جامع أحاديث الشيعة، مج 1، المقدّمات، ص 69.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 67

[فتاوى العلماء]

قال سيّد أعلام الهدى أعلى اللّه مقامه الشريف في الناصريات: المسألة السادسة عشرة: الخمرة نجسة و كذلك كلّ شراب يسكر كثيره. لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلّا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم و الّذي يدلّ على نجاستها قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ- إلى قوله:- عَمَلِ الشَّيْطٰانِ، و قد بيّنا انّ الرّجس و الرّجز بمعنى واحد في الشّراب فأمّا الشراب الّذي يسكر كثيره فكلّ من قال:

انّه محرّم الشرب ذهب إلى أنّه نجس كالخمر و إنّما يذهب إلى طهارته من ذهب إلى اباحة شربه و قد دلّت الأدلّة الواضحة على تحريم كلّ شراب أسكر كثيره فوجب أن يكون نجسا لأنّه لا خلاف في انّ نجاسته تابعة لتحريم شربه. «1»

و قال الشيخ الطوسي في المبسوط: و الخمر نجسة بلا خلاف و كلّ مسكر عندنا حكمه حكم الخمر. (كتاب المبسوط، ج 1، ص 36، طبعة طهران). و في الجواهر لم يعتدّ بالخلاف في المبسوط.

و في السرائر بعد نفي الخلاف عن نجاسة الخمر حكى عن بعض أصحابنا ما يقتضي الطّهارة، ثمّ قال: و هو مخالف لإجماع المسلمين فضلا عن الطائفة في انّ الخمر نجس و في المحكي عن نزهة يحيى بن سعيد من انّ القول بطهارة الخمر خلاف الإجماع و في الذكرى انّ القائل بالطّهارة تمسّك بأحاديث لا تعارض القطعي. و كذا ادّعى الإجماع على النجاسة أمثال ابن زهرة و المحقّق و العلّامة و الشهيد

______________________________

(1). سلسلة الينابيع الفقهيّة، ج 1، ص 145.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 68

و المتأخّرين عنهم. ففي

غنية النزوع الخمر نجسة بلا خلاف إلّا ممّن لا يعتدّ به. و قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ يدلّ على نجاستها و كلّ شراب مسكر نجس. «1»

و قال العلّامة الحلّي أعلى اللّه مقامه الشريف في المختلف: الخمر و كلّ مسكر و الفقّاع و العصير إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه نجس. ذهب إلى ذلك أكثر علمائنا كالشيخ المفيد و الشيخ أبي جعفر و السيّد المرتضى و أبي الصلاح و سلّار و ابن إدريس و قال أبو علي بن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما، لأنّ اللّه إنّما حرّمهما تعبّدا لا لأنّهما نجسان. و قال أبو جعفر بن بابويه: لا بأس بالصّلاة في ثوب أصابه خمر. لنا، أوّلا الإجماع على ذلك فانّ السيّد المرتضى قال: لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلّا ما يحكى عن شذاذ. و قال الشيخ: الخمر نجس بلا خلاف و قول السيّد المرتضى و الشيخ حجّة في ذلك فانّه إجماع منقول بقولهما و هما صادقان فيغلب على الظنّ ثبوته و الإجماع كما يكون حجّة إذا نقل متواترا فكذا إذا نقل آحادا. انتهى كلام العلّامة في المختلف. «2»

و في محكيّ المعالم: لا نعرف فيه خلافا و كذا في محكيّ المدارك:

انّه قطع به الأصحاب و في محكّي المدارك و الذخيرة: لو لا الشهرة العظيمة و الإجماع المنقول لكان القول بالطّهارة متّجها. و العجب انّه مع

______________________________

(1). سلسلة الينابيع الفقهيّة، ج 1، ص 145.

(2). مختلف الشيعة، ص ...، طبعة حجريّة.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 69

ورود الرّوايات المتكثرة الدّالّة على الطّهارة ادّعوا هؤلاء الأعاظم انّا لا نعرف خلافا و

قد نقلنا آنفا عن الذّكرى انّ هذه الأحاديث لا تعارض القطعي.

و قال الشيخ البهائي قدّس اللّه سرّه من المتأخّرين في الحبل المتين: أطبق علماء الخاصّة و العامّة على نجاسة الخمر إلّا شرذمة منّا و منهم لم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم إلى غير ذلك من كلمات الأعلام.

و يقول المحقّق في المعتبر: الخمر نجس العين و لكنّه يعترف على الخلاف و عدم تحقّق الإجماع المفيد و في آخر كلامه: لكن مع اختلاف الأصحاب و الأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدّين، و قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في كتاب الطّهارة: من العجيب شكّ المحقّق في المقام. و كيف كان لا يسعنا الكلام في المقام في قضيّة الإجماع المحقّق المحصّل و في فائدة الإجماع المنقول و في قضيّة انعقاد مثل هذا الإجماع في نجاسة الخمر مع انّه قد اشتهر خلاف الصّدوق و أبي علي بن أبي عقيل و النعماني في نجاسته، و لكنّ المستفاد من عبارات أعلام الطائفة انّ القول بنجاسة الخمر قول يشبه بالمجمع عليه بحيث لا يتجرّأ الإنسان على مخالفته مع غضّ النظر عن سائر الأدلّة مثل الكتاب و الأحاديث، و قال بعض المحقّقين المتأخرين إنّ في دعوى السيّد و الشيخ الإجماع على النجاسة نحو من الوهن. إذ كيف يخفى عليهما خلاف مثل الصّدوق الّذي هو على رأس مدرسة فقهيّة كبيرة. و نحن نقول: انّ تعبيرهما في المقام كاف في وهن مخالفي هذا الاتّفاق و الإجماع

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 70

و معتذرا عن سوء الأدب نقول: إنّ تعبير السيّد و الشيخ مع اطّلاعهم على كتب الصّدوق و فتاواه و جلالة قدره و كونه على رأس مدرسة فقهيّة كبيرة بانّ القائل بالطّهارة من الشّذاذ لا اعتبار بقوله تعبير

موهن بالنسبة إلى الصدوق و مخالفته و هذا يشهد على عدم اعتنائهم بقول القائل بالطّهارة مثل الصّدوق و ابن أبي عقيل و النعماني، كما انّ الكلام المتقدّم للشيخ البهائي من المتأخّرين في الحبل المتين يشبه مثل هذا الوهن بالنسبة للمحقّق الأردبيلي من المتأخرين و من تبعه و من العجيب ادّعاءهم و لو نقلا الاتّفاق على نجاسة الخمر مع انّ روايات الطّهارة بكثرتها و وثاقة رواتها و معروفيّتهم بمرأى منهم و منظر، و هذا يدل على عدم اعتناء أغلبهم بل كلّهم لو لا شذاذ في البين على هذه الرّوايات الدالّة على الطّهارة، و لسنا نحن في مقام ادّعاء انعقاد الإجماع المحقّق منهم على النّجاسة حتّى يرد على هذا الادّعاء ما يرد في أمثال المقام من عدم تحقّق إجماع الكلّ و كون مثل هذا الإجماع مدركيّا لاحتمال استنادهم في الحكم بالرّوايات الواردة و نتكلّف لإثبات نقض مثل هذا الإجماع باثبات المخالف في المسألة و أمثال ذلك، بل ننظر إلى مثل هذا الادّعاء من الأعلام في المسألة بحيث لا يمكن غضّ النظر عنه قطعا و لا الالتفات إلى أخبار الطّهارة تبعا. قال المحقّق المقدّس بعدم ثبوت الإجماع كما صرّح به السيّد و يدلّ عليه مكاتبة عليّ بن مهزيار حيث كان الخلاف بين الأصحاب موجودا. «1»

______________________________

(1). مجمع الفائدة و البرهان، ج 1، ص 309.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 71

و من العجب انّ السيّد أعلى اللّه مقامه مع النظر إلى هذه المكاتبة و مخالفة الصدوق و من تبعه حكم بالاتّفاق و الإجماع و أعجب من ذلك معالجة نفس المكاتبة لهذا الاختلاف و حكومتها على الرّوايات الواردة الدالّة على الطهارة.

[الاستدلال بالكتاب]

و أمّا الاستدلال بالكتاب فبالآية الشريفة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ

الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ. «1»

بدعوى دلالة كلمة الرّجس على النجاسة و قد مرّ كلام السيّد في الناصريات انّ الّذي يدلّ على النجاسة قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ و دعوى الشيخ في المبسوط الإجماع على كون الرجس بمعنى النجس و قالوا فيه بمنع الدّلالة فانّ المشهور بين أهل اللّغة كما صرّح به في المدارك انّ الرّجس هو المأثم و المستقذر و لو سلّم كونه بمعنى النجس، فالنجس يطلق لغة على كلّ مستقذر و إن لم يكن نجسا بالمعني الشّرعي و لم يثبت كون الرّجس بمعنى النجاسة العينية الخارجية سيّما في عصر نزول الآية الشريفة. و سياق الآية بمقتضى كون الرّجس وصفا للأعيان المذكورة و عطف الميسر و الأنصاب و الأزلام على الخمر يأبى عن ذلك لعدم كون الميسر و غيره من النجاسات و هو أيضا غير مناسب مع قوله تعالى: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فلا بدّ من كون الوصف عملا خارجيا و فعلا من الأفعال كما هو الشأن في لزوم تعلّق الأحكام التكليفية الخمسة على فعل من أفعال المكلّفين الاختياريّة فقوله تعالى:

______________________________

(1). المائدة/ 90.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 72

فَاجْتَنِبُوهُ يتعلّق بالأفعال المناسبة لكلّ من المذكورات كالشّرب و اللّعب و نحوهما، هذا.

و قالوا: إنّ الرّجس بمعنى النّجس و هو خبر للخمر فقط و خبر المعطوفات مقدّر من نحوه كذا في قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر للعلّامة المحقّق الشيخ أحمد الجزائري و سيأتي شبه تأييد لهذا النظر، و الانصاف انّه خلاف الظهور قطعا لظهور كون الرّجس بمعنى جامع خبرا للجميع فلم تدلّ الآية الكريمة على خصوص نجاسة الخمر و لكن كون الرّجس بمعنى المأثم و المستقذر لا ينافي مع كون المراد من

المستقذر بالنسبة إلى خصوص الخمر النجس بالمعنى الشرعيّ و لا بدّ من أن يكون المراد من الرّجس بالنسبة إلى الخمر في الآية هي النجاسة بالمعنى الشرعي لاستناد المعصوم إلى الآية و كلمة الرّجس لنجاسة الخمر. في رواية خيران الخادم الثقة المرويّة في الكافي و التهذيب و الإستبصار بطريق ليس فيها من يتوقّف في شأنه إلّا سهل بن زياد و الضعف منجبر بعمل الأصحاب و هي كتبت إلى الرّجل عليه السّلام عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلّى فيه أم لا؟ فانّ أصحابنا اختلفوا فيه فقال بعضهم: صلّ فيه فانّ اللّه إنّما حرّم شربها و قال بعضهم: لا تصلّ فيه فكتب عليه السّلام: لا تصلّ فيه فانّه رجس. (وسائل الشيعة، باب 38 من أبواب النّجاسات).

فانّ نهي الإمام عليه السّلام عن الصّلاة في الثوب يصيبه الخمر و تعليله بانّه رجس إنّما هو من جهة النجاسة فقط إذ مجرّد تحريم الشرب على

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 73

التقرير الوارد في الرّواية لا يوجب بطلان الصّلاة كالصّلاة في الثوب الّذي يصيبه السمّ المائع فالرجس في الرّواية لا بدّ من أن يكون بمعنى النجس. و قد نفى الشيخ في التهذيب الخلاف عن كون الرّجس بمعنى النجس. و قال في التهذيب عند كلام المفيد بأنّ الخمر و نبيذ التمر و كلّ شراب مسكر نجس الخ. «1» فالّذي يدلّ على ذلك قوله تعالى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ. «2» فأطلق عليه اسم الرّجاسة و الرّجس هو النجس بلا خلاف. «3» و في محكي التذكرة و المنتهى انّه كذلك لغة و في محكي المصابيح انّه نصّ عليه الفقهاء، و قد وقفت سابقا على استدلال

المرتضى على نجاسة الخمر بالآية الشريفة و هو علم العربيّة و سيّدها و قد كان الشيخ عزّ الدّين أحمد بن مقبل يقول: لو حلف انسان انّ السيّد المرتضى كان أعلم بالعربية من العرب لم يكن عندي آثما. «4»

و في مجمع البيان في هذه الآية دلالة على تحريم الخمر و هذه الأشياء من أربعة أوجه: أحدها انّه سبحانه وصفها بالرجس و هو النجس، و النجس محرّم بلا خلاف. و في فقه القرآن للفقيه المحدّث المفسّر قطب الدّين سعيد بن هبة اللّه الرّاوندي: انّ الرجس و الرّجز و

______________________________

(1). المقنعة، ص 73، طبعة مؤتمر المفيد.

(2). المائدة/ 93.

(3). التهذيب، ج 1، ص 278، طبعة النجف.

(4). مقدمة ديوان المرتضى، ص 81، طبعة القاهرة.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 74

النجس بمعنى واحد «1» و كذا فيه و الخمر و كلّ مسكر نجس يدلّ عليه آية تحريمه. «2» و في كنز العرفان للفاضل المقداد- ره-:

استدلّ أصحابنا القائلون بنجاسة الخمر بهذه الآية و وجه الاستدلال بها من وجهين: انّه وصفه بالرّجس و هو وصف النجاسة لترادفهما و لذلك يؤكد الرّجس بالنجس فيقال: رجس نجس.

و هذه الكلمات شواهد على كون الرجس بمعنى النجس لغة و شواهد على لزوم كونه خبرا لخصوص الخمر في الآية كما أشرنا إليه آنفا و لكنّه خلاف الظّهور قطعا و الذّوق الأدبيّ العرفي يأباه. و المقصود انّ الرّجس في باب الخمر بنظر هؤلاء الأعاظم و في الآية الشّريفة بمعنى النجس قطعا. و هذا لا ينافي كون الرجس في مقام آخر بمعنى الخباثة و القذارة المعنويّة قطعا كالرّجس في الآية الشريفة: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «3» فالمراد من الرّجس المستقذر أعمّ من النجاسة الشرعيّة الاعتباريّة و المستقذر

المعنوي القبيح كالأوثان و الزّور و لذلك نرى وقوع الرّجس خبرا عن الأنصاب و الأزلام في الآية الشريفة المنظور إليها في المقام.

فظهر إلى الآن انّ المستفاد من الكتاب و شبه المجمع عليه بين الأصحاب و أعلام الفتيا هو الحكم بنجاسة الخمر و الأخبار الدالّة على

______________________________

(1). فقه القرآن، ج 1، ص 69.

(2). فقه القرآن، ج 1، ص 70.

(3). الحج/ 30.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 75

النجاسة مع صراحتها و وضوحها في ذلك موافقة للكتاب و المجمع عليه و مقدّمة على اخبار الطهارة. و الانصاف انّ الناظر إلى الأخبار الواردة يرى انّ الدالّة منها على النجاسة أكثر عددا و أصحّ سندا و أوضح دلالة مع تعاضدها بالشهرة المحقّقة و الإجماعات المستفيضة و الضعيفة منها منجبرة بعمل الأصحاب. و أغلب روايات الطّهارة مورد نظر و اشكال و ليس فيها تصريح بطهارة الخمر بل بلوازمها و كلّ واحد منها محلّ اشكال و نظر من حيث الدّلالة و المستفاد.

و حيث إنّ الأصحاب استفادوا نجاسة الخمر من الكتاب و استندوا إليه و أجمعوا و اتّفقوا عليها و أخذوا بمضمون الرّوايات الدالّة على النّجاسة مع انّ روايات الطهارة بمرأى منهم و منظر، فكأنّما أعرضوا عن روايات الطهارة و لم يعملوا بها. فلا تكون واجدة للحجّية لسقوطها بالإعراض، و قد نقلنا سابقا عن الذّكرى انّ القائل بالطّهارة تمسّك بأحاديث لا تعارض القطعي هذا، و لكنّ الانصاف انّ في الرّوايات الواردة في كلا الطّرفين صحاح و موثّقات و كثرة بحدّ الاستفاضة و لم يمكنهم الحكم بعدم صدور روايات الطّهارة و كذا لم يمكنهم العمل بها فقد اضطرّوا على حملها على التقيّة من أمراء الوقت و سلاطين الجور من بني أميّة و بني العبّاس و

وزرائهم المولعين بشرب الخمر على ما ورد من شيمهم المشؤومة و سيأتي بيانه. فينبغي لنا الآن ذكر أهم الرّوايات الواردة في الباب.

[الاستدلال بالروايات]

محمد بن يعقوب في الكافي عن الحسين بن محمّد عن عبد اللّه بن

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 76

عامر عن عليّ بن مهزيار عن فضالة بن أيّوب عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الّذي يعير ثوبه لمن يعلم انّه يأكل لحم الجري أو يشرب الخمر فيردّه أ يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال: لا يصلّي فيه حتّى يغسله. (وسائل الشيعة، باب 38، من أبواب النجاسات، ح 1).

و عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن بعض من رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك. «1»

فالأمر بوجوب الغسل و اعادة الصّلاة من جهة نجاسة الخمر و الصّلاة في الثوب الّذي أصابه الخمر و الإشكال في الرّواية من جهة الارسال لا مجال فيه فانّ يونس بن عبد الرحمن من المجمع على قبول روايتهم.

و عن محمد بن يحيى عن بعض أصحابنا عن أبي جميل البصري عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفقّاع، فقال: لا تشربه فانّه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله. «2»

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسة، باب 38، ح 3).

(2). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 5).

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 77

فالأمر بغسل الثوب لتنجّسه بالفقّاع و هو خمر استصغره الناس و يستفاد من الرّواية نجاسة كلّ خمر،

إلّا انّ البعض قال بضعف الرّواية بأبي جميل أو أبي جميلة، و قال في المستند انّها منجبرة بالعمل.

و عن محمّد بن الحسن عن بعض أصحابنا عن إبراهيم بن خالد عن عبد اللّه بن وضّاح عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث النبيذ، قال: ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء يقولها ثلاثا. «1» و لا إشكال في دلالة الرّواية على نجاسة النبيذ و التشديد فيها.

و عن محمّد بن الحسن باسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن عليّ عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا تصلّ في بيت فيه خمر و لا مسكر لأنّ الملائكة لا تدخله و لا تصلّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله. «2»

عبد اللّه بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن النّضوح يجعل في النبيذ أ يصلح أن تصلّي المرأة و هو في رأسها؟ قال: لا حتّى تغتسل منه. «3»

و عن محمد بن الحسن عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدّق عن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الإناء يشرب فيه النبيذ،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 6.

(2). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 7.

(3). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 15.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 78

فقال: تغسله سبع مرّات و كذلك الكلب- إلى أن قال:- و لا تصلّ في بيت فيه خمر و لا مسكر لأنّ الملائكة لا تدخله و لا تصلّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتّى

يغسل. «1»

و منها روايات وردت في جواز استعمال أواني الخمر بعد غسلها. «2»

محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن أحمد عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الدّنّ يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الابريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟

قال: إذا غسل فلا بأس. و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال:

تغسله ثلاث مرّات. سئل يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتّى يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرّات. «3»

و عن يعقوب بن يزيد عن الحسن بن المبارك عن زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذّمّة أو الكلب و اللحم اغسله و كله، قلت: فانّه قطر فيه الدّم؟ قال: الدّم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 35، ح 2.

(2). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 30، ح 2.

(3). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 51، ح 1.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 79

تأكله النّار إن شاء اللّه، قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟

قال: فقال: فسد. قلت: أبيعه من اليهوديّ و النّصارى و أبيّن لهم، قال:

نعم فانّهم يستحلّون شربه قلت: و الفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي ء من ذلك؟ قال: فقال: أكره أنا أن آكله إذا قطر في شي ء من طعامي. «1»

و

في الوسائل رواه الكليني كما يأتي في الأشربة المحرّمة. أقول:

يأتي الوجه في حكم الدّم في محلّه إن شاء اللّه. هذا فالأمر باهراق الّذي استهلك فيه قطرة خمر و الأمر بغسل اللّحم و فساد العجين الذي قطر فيه قطرة خمر من جهة نجاسة الخمر و تنجّس المرق و اللّحم و العجين بها.

عبد اللّه بن جعفر في قرب الاسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الطعام يوضع على سفرة أو خوان قد أصابه الخمر أ يؤكل عليه؟ قال: إن كان الخوان يابسا فلا بأس. «2» و غير خفي انّ عدم البأس في حالة يبوسة الخوان لعدم سراية النجاسة.

عبد اللّه بن جعفر في (قرب الأسناد) عن أحمد و عبد اللّه ابني محمّد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن عليّ بن رئاب قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 8.

(2). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 25، ح 3.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 80

أصلّي فيه، قال: صلّ فيه إلّا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر إنّ اللّه تعالى إنّما حرّم شربها. «1»

محمّد بن عليّ بن الحسين قال: سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليه السّلام فقيل لهما: انّا نشتري ثيابا يصيبها الخمر و ودك الخنزير عند حاكتها، أ نصلّي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، انّ اللّه إنّما حرّم أكله و شربه و لم يحرّم لبسه و مسّه و الصّلاة فيه. «2»

الرواية معتبرة من حيث السّند إلّا انّها مشتملة على طهارة جزء من الخنزير و جواز الصّلاة فيه و هي

معارضة مع روايات نجاسة الخنزير و روايات مانعية ما لا يؤكل لحمه، و لا يمكن العمل بالرواية في هذا الجزء قطعا و التبعيض في الحجّية غير معقول و غير مقبول فلا يمكننا العمل بها.

و في التهذيب بالاسناد عن ابن بكير عن صالح بن سيّابة عن الحسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نخالط اليهود و النصارى و المجوس و ندخل عليهم و هم يأكلون و يشربون فيمرّ ساقيهم و يصبّ على ثيابي الخمر. فقال: لا بأس به إلّا أن تشتهي أن تغسله لأثره.

أقول: حمل الشيخ هذه الأخبار على التقيّة من سلاطين ذلك الوقت و جمع علماء العامّة و حمل ما لا تصريح فيه بالصّلاة على اللّبس

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 14.

(2). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 13.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 81

في غير الصّلاة، و يمكن الحمل على تعذّر الإزالة، و بعضه يمكن حمله على الإنكار. «1»

و باسناده عن سعد عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن عبد اللّه بن بكير قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب قال: لا بأس. «2»

لا يخفى انّ عدم البأس في اصابة المسكر و النبيذ للثوب لا يدلّ على طهارتهما و جواز الصّلاة في الثّوب بل إنّما يدلّ على عدم البأس بنجاسته و تنجيسه دفعا لتوهم عدم جواز الاستفادة و الانتفاع بمثل هذا الثوب بعد الاصابة مطلقا مبالغة في قذارته و خباثته. هذا مقتضى ظهور الجملة و لكنّه لا يلائم ظهور سائر الروايات في عدم البأس للصّلاة فيه.

و عن أبي عبد اللّه البرقي عن

محمّد بن أبي عمير عن الحسين بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن أصاب ثوبي شي ء من الخمر أصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس انّ الثوب لا يسكر. «3»

أحمد بن محمد بن عيسى عن عليّ بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أصاب ثوبي نبيذ أصلّي فيه؟ قال: نعم. قلت: قطرة من نبيذ قطر في حبّ أشرب منه،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 12.

(2). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 11.

(3). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 10.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 82

قال: نعم انّ أصل النبيذ حلال و انّ أصل الخمر حرام، أقول: حمله الشيخ على النبيذ الّذي لا يسكر. «1»

و في الكافي عن عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد عن خيران الخادم قال: كتبت إلى الرّجل عليه السّلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير فيه أ يصلي فيه أم لا؟ فانّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صلّ فيه فانّ اللّه إنّما حرّم شربها، و قال بعضهم: لا تصلّ فيه، فكتب عليه السّلام: لا تصلّ فيه فانّه رجس. «2»

و عن الكافي بالاسناد عن عليّ بن مهزيار و عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد و عن عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد عن عليّ بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن عليه السّلام:

جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام في الخمر يصيب ثوب الرّجل انّهما قالا: لا بأس بأن تصلّي فيه إنّما حرم شربها و روى

عن (غير) زرارة عن أبي عبد اللّه انّه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك فاعلمني ما آخذ به فوقع عليه السّلام بخطّه و قرأته: خذ بقول أبي عبد اللّه عليه السّلام. «3»

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 9.

(2). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 4).

(3). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 2.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 83

أورد صاحب المعالم في منتقى الجمان هذا الحديث الصّحيح فقط من جميع الأحاديث الواردة في باب النجاسات. «1» و قد اعترف العلّامة المحقّق الأردبيلي قدّس اللّه سرّه على انّ أجود الأخبار سندا هي مكاتبة عليّ بن مهزيار و ليس في الأخبار ما يصلح حجّة إلّا المكاتبة.

و لا اشكال في ظهور الرواية في استعلام حكم القضيّة واقعا و لا مجال لما أفاده المحقّق الأردبيلي انّ في الرّواية إجمال ما و سيجي ء الاشارة إلى انّ هذه الرواية معالجة للاختلاف الموجود في المسألة. و العجب انّه استشهد على عدم ثبوت الإجماع بنفس المكاتبة هذه حيث كان الخلاف بين الأصحاب موجودا مع انّ نفس المكاتبة هذه قد عالجت الخلاف و بيّنت الحكم الواقعي في القضيّة و هي في الحقيقة من أدلّة التّرجيح و مرجّحة للطائفة الدّالّة على النّجاسة على فرض تعارض الطّائفتين و الرجوع إلى العلاج في مقام التعارض عند اليأس عن العلاجات الواردة في الأخبار العلاجيّة و هذه الرّواية شاهدة صادقة على العلاج و عدم المجال للرّجوع إلى روايات الطهارة. فاللّازم على هذا هو الحكم بنجاسة الخمر عملا بمقتضى هذه الصحيحة النّاظرة إلى الطّائفتين و المبيّنة لما يجب

الأخذ به منهما و تعيّن الأخذ بقول أبي عبد اللّه عليه السّلام المنفرد عن قول أبي جعفر عليه الصّلاة و السّلام فهي دالّة على نجاسة الخمر و عدم جواز الصّلاة في ما أصابه دون رواية الطهارة لأنّها قول الباقر و الصادق عليهما الصّلاة و السّلام معا و غير متمحّضة في قول

______________________________

(1). منتقى الجمان، ج 1، ص 86.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 84

الصادق عليه السّلام منفردا كما انّ رواية خيران الخادم كانت بهذا المضمون أيضا.

هذه الرّوايات و غيرها مذكورة في مجاميعنا الحديثيّة المقدّسة و لعلّ كلّها مجموع في جامع أحاديث الشيعة. و لكنّك قد وقفت سابقا على انّ روايات الطّهارة عند الفقهاء ما عدا قليل منهم في المتقدّمين و المتأخّرين غير معمول بها معرض عنها فلا بدّ إمّا من القول بعدم صدورها و هذا مشكل و لا يمكننا ذلك لكونها كثيرة بعضها صحاح و موثّقات، و إمّا بحملها على التقيّة، و إمّا بحمل روايات النجاسة على التنزّه و الاستحباب أمّا حمل روايات النجاسة على استحباب الاجتناب و التنزّه فلا يمكننا ذلك أيضا للتّنافي و عدم ملائمة التعابير الواردة مع الاستحباب فانّ جملة منها كادت تكون صريحة في عدم جواز الانتفاع بما وقع فيه الخمر حتّى بالاكتحال منه في غير الضّرورة و التأكيد ثلاث مرّات بانّ ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء، و منافرة التنجيس مع الاستحباب، و غسل اناء النبيذ سبع مرّات كالكلب، و مثل التعليل الوارد عند صريح النّهي عن الصّلاة في الثوب يصيبه الخمر لا تصلّ فيه فانّه رجس، و لعلّ القول باستحباب الاجتناب و التنزّه شبه المجمع على خلافه فلا بدّ من حمل روايات الطهارة على التقيّة. و ربّما يقال أنّ

الحمل على التقيّة خلاف الأصل فانّ مقتضى القاعدة صدور الرّواية بداعي بيان الحكم الواقعي و لا يجوز رفع اليد عن ذلك إلّا بدليل و قرينة. فالحمل على التقيّة خلاف الأصل في كلا الطّرفين من

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 85

الرّوايات. و حمل أخبار الطهارة على التقيّة ليس بأولى من حمل أخبار النجاسة على الاستحباب و التنزّه. و المشهور في الفقه السّني بمختلف مذاهبه هو الحكم بالنّجاسة فلازم الأخذ بما خالف العامّة هو الحكم بالطهارة و لكنّك قد عرفت انّ الحكم بالنجاسة موافق للكتاب و شبه المجمع عليه و الروايات الدالّة على النجاسة مقبولة عندهم من حيث العمل و منجبرة بالإقبال عليها دون المعارضة لها فحمل هذه الرّوايات المعارضة على التقيّة أولى.

و ربّما يقال بعدم مجال لاتّقاء الصادق عليه السّلام عن فقهاء عصره و خلفاء زمانه فانّ الخلفاء المعاصرين له لم ينقل منهم الادمان على المسكر و الخمور و فقهاء عصره من المشهورين و المعاصرين له قائلون بالنجاسة و القائل بالطهارة مثل ربيعة فهو منزو لا خوف منه و لا تقيّة و القائل المعلن بالطّهارة ظهر بعد زمان الصّادق عليه السّلام هذا و لكن التقيّة لا تنحصر في القول بما يوافق علماء العامّة و تشرّع العامة و تديّنهم بل ربّما يدعو إليها اصرار الأمراء و الوزراء و جلاوزتهم و أراذلهم و الجهلاء من أصحاب الشوكة على أمر و ولوعهم به، و عوام الناس من الجهلاء بسيرتهم مقتدون بالأجلاف الغالبين و المسلّطين على الأمور فانظروا إلى ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن ربعيّ عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: التقية في كلّ ضرورة و صاحبها أعلم بها حين

تنزل به. «1»

______________________________

(1). شرح أصول الكافي للمازندراني، ج 9، ص 115.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 86

و التقيّة في المقام من هذا القبيل فانّ أكثر أمراء بني أميّة و بني العبّاس كانوا مولعين بمزاولة الخمر و شربها و تلوّثهم بها و عدم التحرّز عن مباشرتها غالبا، بل ربّما أمّ بعض أمرائهم و هو سكران فضلا عن كون ثيابه ملوّثا به كما هو مذكور في التواريخ، فالحكم بالنجاسة و اشاعته يورث مهانة لهم في أنظار العوامّ و شدّة الشناعة عليهم و بطلان صلاتهم و صلاة من كان يقتدي بهم الإزراء و الاستخفاف بهم و كلّ ذلك يوجب الشّغب و الدّسائس و المكائد و المعاندة منهم للإمام المعصوم و هو عليه السّلام لم يحكم بطهارة الخمر في هذه الروايات، بل أعمل التقيّة فيما يلازم طهارة الخمر أو العفو عن نجاستها مثل الصّلاة في النجس و الحكم بالنجاسة مخالف للتقيّة بخلاف الحرمة حيث كانت ضرورية من الدّين منسوبا مخالفه إلى الإلحاد فلم تكن بهذه المثابة، و الحكم بالطّهارة تقيّة للتحرّز من عنادهم و انجرار تجرّيهم إلى انكار حرمة شربها و هو انكار منصوص القرآن الكريم كما يظهر من سؤال المهدي العبّاسي لعنه اللّه الإمام أبا الحسن عليه الصّلاة و السّلام عن الدليل على حرمة الخمر فراجع الوسائل، الباب التاسع من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث الثالث عشر.

و يشهد على ولوع الأمراء و الوزراء على الخمر و ولوغهم فيها حتّى بمحضر الصّادق عليه السّلام ما في الوسائل. محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن أبيه عن هارون بن الجهم قال:

كنّا مع أبي عبد اللّه عليه السّلام بالحيرة حين قدم على أبي جعفر المنصور فختن

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 87

بعض القواد ابنا له و صنع طعاما و دعا الناس و كان أبو عبد اللّه عليه السّلام فيمن دعا فبينما هو على المائدة يأكل و معه عدّة على المائدة فاستسقى رجل منهم فأتى بقدح فيه شراب لهم فلمّا صار القدح في يد الرّجل قام أبو عبد اللّه عليه السّلام عن المائدة فسئل عن قيامه فقال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر. «1»

و يشهد على عدم ارتضاء الإمام المعصوم عمّا يجري في زمانه و عدم قدرته لرفع المآثم و المعاصي ما في الكافي عن الوشّاء، قال: كتبت إليه يعني الرضا عليه السّلام عن الفقّاع فكتب: حرام و من شربه كان بمنزلة شارب الخمر، قال: و قال أبو الحسن عليه السّلام: لو أنّ الدّار داري لقتلت بايعه و لجلدت شاربه. و كذا في رواية سليمان بن جعفر قال: قلت لأبي الحسن الرّضا عليه السّلام: ما تقول في شرب الفقّاع؟ فقال: هو خمر مجهول يا سليمان فلا تشربه أما يا سليمان لو كان الحكم لي و الدّار لي لجلدت شاربه و لقتلت بايعه. «2»

هذا تمام الكلام في المسألة و تتميما له نقول:

و أمّا ما في مجمع الفائدة و البرهان انّ الحكم بالطّهارة يوافق الأصل و استصحاب الطّهارة و كلّ شي ء طاهر ففيه انّ هذه الأصول مقطوع مثبت خلافها و منقوضة بوجود الحجّة و الدّليل التعبّدي المعتبر شرعا في كلا الطّرفين من الطّهارة و النجاسة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب 62، ح 1.

(2). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 28.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 88

هذا تمام الكلام في المسألة أعني

نجاسة الخمر و الكلام في إلحاق سائر المسكرات بها في النجاسة إذ لا ريب و لا إشكال في إلحاق المسكرات المائعة بالخمر من حيث حرمة شربها لما ورد في الأخبار انّ اللّه لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها. مضافا إلى غيرها من الأخبار الواردة في حرمة مطلق المسكر و انّ كلّ مسكر حرام و حرّم اللّه الخمر بعينها و حرّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم المسكر من كلّ شراب و ما في العيون تحريم كلّ شراب مسكر قليله و كثيره إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الباب الخامس عشر من أبواب الأشربة المحرّمة من الوسائل. و إنّما الكلام في انّ الحاقها من حيث النجاسة أيضا أو من حيث حرمة الشرب فقط، و قد عرفت سابقا انّ الرّجس في خصوص الخمر في الآية الشريفة المستقذر النجس.

و ربّما يقال انّ الخمر هو الشراب المتّخذ من العنب خاصّة و في لسان العرب: ما أسكر من عصير العنب لأنّها خامرت العقل و قال أبو حنيفة: قد تكون الخمر من الحبوب فجعل الخمر من الحبوب. قال ابن سيّده: و أظنّه تسمّحا منه لأنّ حقيقة الخمر إنّما هي العنب دون سائر الأشياء. و في محلّ آخر (من اللسان): الخمر ما خمر العقل و هو المسكر من الشّراب. انتهى. و العرب أطلق لفظ الخمر على نفس العنب لاختماره و اعتصاره بعد قال اللّه تعالى: أَرٰانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا. «1»

______________________________

(1). سورة يوسف/ 32.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 89

و يمكن أن يكون حصر هذا الإطلاق لصنعهم الخمر من خصوص العنب في الجاهليّة و في اللّسان قال أبو حنيفة و زعم بعض الرّواة انّه رأى يمانيا قد

حمل عنبا فقال له: ما تحمل؟ قال: خمرا فسمّى العنب خمرا. قال ابن الأعرابي: و سمّيت الخمر خمرا لأنّها تركت فاختمرت و اختمارها تغيّر ريحها. و يقال سمّيت بذلك لمخامرتها العقل، و روى الأصمعي عن معمّر بن سليمان قال: لقيت أعرابيّا، فقلت: ما معك؟ قال: خمر و الخمر ما خمر العقل و هو المسكر من الشّراب. و في محكي القاموس: الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام كالخمرة و العموم أصحّ لأنّها حرمت و ما بالمدينة خمر عنب و ما كان شرابهم إلّا البسر و التمر و في محكي المصباح المنير للفيومي:

الخمر معروفة إلى أن قال: و يقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه. و في محكيّ كلام ابن الأعرابي: الخمر فيما اشتهر بينهم كلّ شراب مسكر و لا يختصّ بعصير العنب. و في المرويّ في تفسير القمي إشارة إلى تسمية الخمر بانّ كلّ مسكر من الشّراب إذا أخمر فهو خمر فالعلّة الحقيقيّة في قذارة الخمر هذا الاختمار و التخمير، و عطف كلّ مسكر على الخمر في الرّوايات و إن كان ظاهرا في التعدّد و التغاير و لكنّه لأجل استيناس أذهانهم بالخمر المتّخذ من العنب و تغايره مع سائر المسكرات.

فظهر انّ الخمر حقيقة في كلّ شراب مسكر يخامر العقل و يخالطه سواء اتّخذ من العنب أو من غيره أو سمّى كلّ متّخذ من شي ء

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 90

مخصوص باسم مخصوص و لكنّها مشتركة في الاختمار و الاسكار، فلا نحتاج بعد هذا إلى ادّعاء الحقيقة الشرعيّة بالنسبة للمعنى الأعمّ كما ادّعاه صاحب الحدائق قدّس سرّه و إن شئت فقل: انّ الروايات المعتضدة بالكتاب و الإجماع دلّتا على نجاسة جميع المسكرات بإطلاقها

بعنوان الخمر و إن لم تكن خمرا فبمقتضى الروايات جميع المسكرات خمر حكومة و موضوعا أو انّها خمر بنحو الحقيقة الشرعيّة الحاصلة للّفظ كما أشار إليه صاحب الحدائق- قدّس سرّه- و لا بأس بالإشارة إلى علّة تحريم الخمر و اشتراك جميع المسكرات في هذه العلّة من ازالة العقل و الشعور و ارتكاب الفواحش و المآثم.

فمنها ما رواه الصدوق- عليه الرحمة- في العلل و العيون عن محمّد بن سنان عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: حرّم اللّه الخمر لما فيها من الفساد و من تغيير عقول شاربها و حملها إيّاهم على انكار اللّه عزّ و جلّ و الفرية عليه و على رسله و سائر ما يكون منهم من الفساد و القتل و القذف و الزّنا و قلّة الاحتجاز من شي ء من المحارم فبذلك قضينا على كلّ مسكر من الأشربة انّه حرام محرّم، لأنّه يأتي من عاقبتها و ما يأتي من عاقبة الخمر فليجتنب من يؤمن باللّه و اليوم الآخر و يتولّانا و ينتحل مودّتنا كلّ شراب مسكر فانّه لا عصمة بيننا و بين شاربيها. «1»

و كذا ما في الكافي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 15، ح 16).

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 91

أحدهما عليه السّلام قال: ما عصي اللّه بشي ء أشدّ من شرب المسكر انّ أحدهم يدع الصّلاة الفريضة و يثب على أمه و ابنته و أخته و هو لا يعقل. «1»

و من هذه الرّوايات ما في الإحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث انّ زنديقا قال له: فلم حرّم اللّه الخمر و لا لذّة أفضل منها؟

قال: حرّمها لأنّها أمّ الخبائث و رأس كلّ

شرّ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربّه و لا يترك معصية إلّا ركبها و لا حرمة إلّا انتهكها و لا رحما ماسّة إلّا قطعها و لا فاحشة إلّا أتاها، و السكران زمامه بيد الشيطان إن أمره أن يسجد للأوثان سجد و ينقاد حيثما قاده. «2»

و في صحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: الخمر من خمسة، العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير و النبيذ من التمر. «3»

و في رواية الشيخ الطّوسي في الأمالي عن النعمان بن بشير قال:

سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يقول: أيّها الناس انّ من العنب خمرا، و انّ من الزبيب خمرا، و انّ من التمر خمرا و إنّ من الشعير خمرا ألا أيّها النّاس أنهاكم عن كلّ مسكر. «4»

و في مجمع البيان عن ابن عباس تعديد رسول اللّه أقسام الخمر

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 12، ح 1).

(2). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 12، ح 11.

(3). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 1، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 1، ح 4.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 92

تسعا.

و لا إشكال في انّ تعديد أقسام الخمر في مثل هذه الروايات إشارة إلى مصاديق الخمر الموجودة في زمانه صلى اللّه عليه و آله و سلم فالخمر هو المسكر في كلّ زمان بحسبه من أيّ شي ء يؤخذ سواء تعارف شربه أو لم يتعارف لشدّة إسكاره، حتى المسكرات الّتي ستتولّد من صناعة الكيمياويّين في العصور المتتالية، و نرى في زماننا الحاضر

مسكرات جامدة بشكل الحلويّات و سكرها أزيد بمراتب من سكر المسكرات المائعة و لا اشكال في حرمة أكل مثل هذه المسكرات الجامدة و نجاستها لأنها كانت بالأصالة مائعة ثمّ تجمّدت في المعامل الكيمياويّة، كما لا إشكال في حرمة شرب كلّ مسكر مائع و أكل كلّ مسكر جامد بالأصالة لإطلاق الروايات الواردة، إلّا انّ النجاسة مختصّة بالمائعات منها على ما سيجي ء بيانه.

[نجاسة جميع المسكرات]

و بعد هذه المقدّمة ننتقل إلى ما نكون بصدد بيانه، و هي نجاسة جميع المسكرات المائعة و الحاقها بالخمر و يستدل على ذلك بوجوه:

الأوّل: الكتاب الكريم و تفسير الرّجس بالنسبة للخمر بالمستقذر النجس في رواية خيران الخادم، و قد عرفت انّ الخمر حقيقة في كلّ شراب مسكر لغة أو تنزيلا و قد ورد في تفسير الآية الشّريفة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشّراب إذا أخمر فهو خمر و ما أسكر كثيره فقليله حرام. «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، باب 1، ح 5.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 93

الثاني: ادّعاء الإجماع على الملازمة بين حرمة شربها و نجاستها و لا إشكال في انعقاد شبه الإجماع و الشهرة الفتوائية على نجاسة جميع المسكرات و في التنصيص على العموم في معاقد الإجماعات الصّريحة و الظاهرة و عدم القول بالفصل في الحرمة و النجاسة، و قد اعترف المحقّق المقدّس الأردبيلي بالاتّفاق على عدم الفرق. و قد مرّ ما نقلناه عن السيّد في النّاصريات انّ كلّ من قال بانّه محرّم الشّرب ذهب إلى انّه نجس كالخمر و إنّما يذهب إلى طهارته من ذهب إلى إباحة شربه، و قد دلّت الأدلّة الواضحة على تحريم كلّ شراب أسكر كثيره فوجب أن يكون نجسا لأنّه لا خلاف في

انّ نجاسته تابعة لتحريم شربه. «1»

و قد أوردنا سابقا الرّوايات المتعدّدة الدالّة على نجاسة كلّ المسكرات مفصّلة و قد أوردها صاحب الوسائل- قدّس سرّه- في الباب الثامن و الثلاثين من أبواب النجاسات في كتابه الوسائل بعنوان نجاسة الخمر و النبيذ و الفقّاع و كلّ مسكر، و قد نقلنا بعضها سابقا منها ما في رواية هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفقّاع فقال: لا تشربه فانّه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله. «2»

و كذا في رواية عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا تصلّ في بيت فيه خمر و لا مسكر، لأنّ الملائكة لا تدخله و لا تصلّ في ثوب قد أصابه

______________________________

(1). سلسلة الينابيع الفقهيّة، ج 1، ص 145.

(2). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 5.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 94

خمر أو مسكر حتّى تغسله. «1»

و قد مرّت رواية عليّ بن مهزيار في السّابق إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله. تقييد النبيذ بالمسكر لأجل كونه قسمين مسكرا و غير مسكر لأنّه يعمل من عامّة الأشربة و هذا التقييد يوسّع الحكم من جهة أخرى إلى كلّ مسكر لكون العلّة للنجاسة و وجوب الغسل الاسكار.

و كذا وردت أخبار عديدة آمرة بإهراق ماء الحبّ الّذي قطرت فيه قطرة من مسكر كما في رواية عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره، فقال: لا و اللّه و لا قطرة قطرت في حبّ إلّا أهريق ذلك الحبّ. و غير خفيّ انّ الرواية في المسكر لا خصوص الخمر و انّ وجوب اهراق الحبّ

لأجل النّجاسة، لأنّ وقوع قطرة من المسكر في حبّ يقارن الاستهلاك قطعا و لا موجب للإهراق بعد ان كان طاهرا.

و ربّما يستشكل في هذه الرّواية بانّ الأصحاب لم ينصّوا في عمر بن حنظلة بجرح و لا تعديل، مع انّ الأصحاب تلقّوا روايته بالقبول في مبحث التعادل و التّراجيح و سمّوها بالمقبولة و ربّما يستدلّ على وثاقته برواية يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا لا يكذب علينا. «2»

______________________________

(1). وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، باب 38، ح 7.

(2). وسائل الشيعة، الباب الخامس من أبواب المواقيت.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 95

و قد قالوا: انّ نفس الرّواية هذه أيضا منظور فيها، حيث إنّ يزيد بن خليفة لم تثبت وثاقته و قالوا فيه: انّه واقفيّ و محمّد بن عيسى الوارد في الرواية أيضا فيه كلام في الرّجال و لكنّ الرّواية متلقّاة بالقبول من أصحابنا، و في التهذيب في باب العمل في ليلة الجمعة و يومها عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عن إسماعيل الجعفي عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: القنوت يوم الجمعة، فقال:

أنت رسولي إليهم في هذا إذا صلّيتم. الحديث. فالرواية تكشف عن عدالته و ضبطه و إلّا لما جعله رسوله إلى شيعته. و قد ذكر العلّامة المامقاني- قدّس سرّه- أمورا في تأييده و شأنه و وثاقته و جلالته مضافا إلى الرّوايتين المذكورتين فمنها كثرة رواياته عن الأئمّة عليه السّلام فانّها تدلّ على علوّ مرتبته و سموّ رتبته. و منها قبول الأصحاب رواياته على كثرتها فانّه لم يردّ شيئا من رواياته أحد من الأصحاب و

لم يقدح في شي ء منها أحد منهم مع انّها نصب أعينهم. و منها ما رواه في بصائر الدرجات و الكافي عن داود بن أبي زيد عن بعض أصحابنا عنه قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام أظنّ لي عندك منزلة قال: أجل، الحديث. و منها ما رواه في العوالم من أعلام الدين للدّيلمي من كتاب الحسين بن سعيد قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لعمر بن حنظلة: يا أبا صخر أنتم و اللّه على ديني و دين آبائي، الحديث. و منها رواية جمع من الأجلّة و غيرهم عنه منهم: عبد اللّه بن مسكان و زرارة و صفوان بن يحيى و أبو أيّوب الخزّاز و عليّ بن الحكم و منصور بن حازم و حمزة بن حمران و

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 96

أحمد بن عائذ و عبد اللّه بن بكير و الحرث بن المغيرة و إسماعيل الجعفي و سيف بن عميرة و أبو المعزا و أبو جميلة و هشام بن سالم و عبد الكريم بن عمر الخثعمي و عمر بن أبان و عليّ بن رئاب و موسى بن بكر و غيرهم على ما نقل في جامع الرّواة فظهر جلالة الرّجل و وثاقته و قبول روايته.

و قد نظر بعض أعاظم العصر في هذه التأييدات بضعفها و ارسالها و بانّها شهادات من عمر بن حنظلة لنفسه و هي غير مسموعة و بانّ رواية الأجلّاء من الرّجل لا تدلّ على الوثاقة. و لكن الإنصاف انّ واقفيّة راو في هذه الأسناد و الروايات الكثيرة أو إرسال واحدة منها لا يوجب الخلل في جميعها و عدم قبولها بأجمعها، و نقل هذه الأكابر عن الرّجل إن لم يوجب كونه في درجة عالية من

الوثاقة فلا أقلّ من كونه جليلا في رتبة الوثاقة و قبول الرواية سيّما كون بعض الأكابر المذكورين في كلام العلّامة المامقاني- قدّس سرّه- من أصحاب الإجماع الأجلّة مثل عبد اللّه بن مسكان و زرارة و صفوان بن يحيى و عبد اللّه بن بكير و إن كان الرّجل جليلا ثقة ناظرا إلى نعم اللّه و مننه عليه فينقل ما هو مدح لنفسه و شهادة في حقّه فما ذنبه بعد. هذا.

ثمّ لا يخفى انّ الأصحاب و الفقهاء العظام رضوان اللّه عليهم قد اعتبروا في الحكم بنجاسة المسكرات الميعان. و الظاهر اتّفاق كلمتهم على تخصيص الحكم بالنجاسة في المسكر بما كان مائعا بالاصالة و إن عرض له الجمود دون الجامد بالأصالة كالحشيشة و إن

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 97

عرض له الميعان. و قد عرفت فيما مضى ظهور الأخبار في كون علّة الحكم حرمة و نجاسة المسكر و انّ كلّ ما عاقبته الخمر فهو خمر. إمّا باطلاق المنزلة المستفاد من نحو قول الباقر عليه السّلام في خبر عطاء المتقدم:

كلّ مسكر خمر أو بإطلاق الخمر عليه في كثير من الأخبار، فلا إشكال في انّ جميع المسكرات مشتركة في علّة التحريم و حرام شربها إن كانت مائعة و حرام أكلها إن كانت جامدة فانّ اللّه سبحانه لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها و قد أشرنا سابقا انّ في عصرنا الحاضر مسكرات جامدة كالحلويات و هي أشدّ اسكارا و خطرا من المسكرات المائعة و قد ابتدعوا و اخترعوها لسهولة الحمل و النقل و التهريب بها و اخفائها من أنظار المسؤولين و مفتشي الكمارك و المسكرات و المخدّرات و أيّ عاقل و عقل يجوّز أكل مثل هذه المسكرات الجامدة الخطرة

بعلّة جمودها؟!

و الكلام في اشتراك الجميع في الحرمة و النجاسة. و ربّما يستدلّ على اختصاص الحكم بالنجاسة بخصوص صورة الميعان أصالة ببعض التعبيرات الواردة في الروايات كالشّرب و الشارب و القطرة و الاصابة و أمثال ذلك أو بتفسير بعض اللّغويين الخمر بانّها شراب مسكر، و بهذه المقتضيات ادّعوا انصراف الأدلّة إلى المسكرات المائعة بالأصالة و من الواضح انّ هذه التعبيرات لاستيناس نفوسهم بالمسكرات المائعة و عدم عهدهم و معرفتهم بالجامدة منها. و أنت خبير بانّ جميع هذه التعبيرات لا تقاوم العلّية القويّة الصّريحة للحرمة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 98

و النجاسة الواردة في الروايات و إن قلنا بعدم صدق الخمر على الجامد بالأصالة و لكن لا إشكال في صدق المسكر على الجامد قطعا سيّما في عصرنا الحاضر، فلا بدّ من الحكم بالحرمة و النجاسة معا على الجامد أيضا إلّا انّ الظاهر الاتّفاق و الإجماع على طهارة المسكر الجامد منهم كما اتّفقوا و أجمعوا على نجاسة المسكر المائع أصالة، بل قالوا بعدم الوقوف على أحد حكم بنجاسة المسكر الجامد بالأصالة و لذا قال في شرح الدّروس انّه لو لا ظهور اتّفاق الأصحاب و عدم ظهور الخلاف لكان مظنّة للاحتياط.

و في كتاب الطّهارة للشّيخ الأعظم الأنصاري- قدّس سرّه-:

انّ مقتضى تقييد المسكر بالمائع طهارة الجامد بالأصالة كما هو المعروف بل عن الدّلائل دعوى الإجماع عليه و عن الذّخيرة انّ الحكم بنجاسة المسكرات مخصوص عند الأصحاب بالمائع منها بالأصالة و عن المدارك انّه مقطوع به عند الأصحاب و في الحدائق اتّفاق كلّهم عليه و عن شرح الدّروس عدم ظهور الخلاف في ذلك، و يدلّ عليه الأصل بعد اختصاص ما تقدّم من أدلّة نجاستها من الإجماع و الأخبار بالمائع كما

لا يخفى على من راجعها. هذا تمام كلام الشيخ الأعظم- قدّس سرّه- فالعمدة في الحكم بطهارة المسكر الجامد بالأصالة هو الإجماع و الاتّفاق من الأصحاب- قدّس اللّه تعالى أسرارهم-.

و أمّا قضيّة انجماد المسكر المائع فإن كان بحيث له الجسميّة الجامدة بعد الانجماد فلا إشكال انّه عين النجاسة العينيّة و أمّا إن لم

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 99

يبق للمائع أثر فالمحلّ متنجّس قطعا و تطهيره يحتاج إلى ما جعله الشارع مطهّرا له، و قد نصّ العلّامة و الشّهيد و غيرهما على نجاسة الخمر و كلّ مسكر و إن صار جامدا بالعرض بل الظاهر التّسالم عليه كما يظهر من عدم عدّ الجفاف و الجمود من المطهّرات و يقتضيه إطلاق أدلّة النجاسة، و لو فرض الشكّ في صدق الموضوع مع الجمود أو انصراف الأدلّة عنه فالاستصحاب كاف في اثبات النجاسة. و لا يكون انجماده في حكم الاستحالة عرفا. و قد نقل الإجماع على بقاء نجاسته بعد الانجماد الشيخ الأكبر- قدّس سرّه- في طهارته. و في كتاب الطهارة للشيخ الأعظم- قدّس سرّه- الظاهر انّه إجماعيّ و يكفي في دليله الاستصحاب.

هذا تمام الكلام في المسألة ممّا سنح بخاطر العبد المفتقر إلى رحمة اللّه و تأييده مرتضى الحسيني النجوميّ غفر اللّه تعالى له. و قد كتبت الرسالة بتلخيص و استعجال و نستغفر اللّه جلّ جلاله من الزّلل و نسأله تطهير نفوسنا من دنس العيوب و الذّنوب فانّه يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ و الحامدين له و المصلّين و المسلّمين على سيّد رسله و آله الطيّبين الطّاهرين أوّلا و آخرا.

________________________________________

نجومى، سيد مرتضى حسينى، الرسائل الفقهية (للنجومي)، در يك جلد، قم - ايران، اول، ه ق

الرسائل الفقهية (للنجومي)؛ ص: 99

شعبان المعظّم

1416 مرتضى الحسينيّ النّجومي

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 100

رسالة الغناء

اشارة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 101

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ و الصّلاة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله الطيّبين الطاهرين و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 103

المقدّمة

و بعد ممّا منّ اللّه تبارك و تعالى به علينا ببركة قيام الجمهوريّة الإسلاميّة و زوال الدولة الفاسدة الطاغوتية إقامة مؤتمرات و ندوات إسلاميّة تعرض فيها جوانب من المعارف و المسائل الإسلاميّة، سواء كانت متعلّقة بأصولي الدين و الفقه أو الكلام أو الفقه أو جوانب حياة أعاظم الدين و علمائنا الأكارم، مثل مؤتمري الشيخين العظيمين: المفيد و الأنصاري قدّس اللّه تبارك و تعالى روحيهما الشريفة. و قد كلّفت الهيئة المسؤولة عن إقامة مؤتمر شيخ الأساطين العظام: الشيخ الأعظم الأنصاري بالتعرّض لجانب من جوانب حياته الكريمة، و تأليف مسائل و رسائل متعرّضة لبعض المباحث التي تعرّض لها. و قد اخترت تأليف رسالتين، الأولى: مسألة التصوير و التمثيل و حكمهما. و الثانية:

و هي هذه الرسالة في الغناء. و النظر الأساسي في البحث إلى ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه. فنقول: سائلين منه جلّ جلاله الهداية و الصواب.

إنّ الكلام في الغناء بالكسر و المدّ ككساء في موارد:

الأوّل: في حكم الغناء و تعميمه و تخصيصه.

و الثاني: في موضوعه.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 104

و الثالث: في المستثنيات و غيرها.

دعوى الإجماع على حرمة الغناء

قال شيخنا الأجلّ قدّس سرّه: لا خلاف في حرمته في الجملة. و الأخبار بها مستفيضة. و ادّعى في الإيضاح تواترها و لعلّ في الجملة إشارة إلى خلاف الموليين المعظّمين المحدّث الكاشاني قدّس سرّه على ما فهمه الشيخ قدّس سرّه من كلامه، و المحقّق السبزواري طاب ثراه في الكفاية. و ستجي ء الإشارة إلى كلامهما إن شاء اللّه، و صحّة هذه النسبة و عدمها. و كذا إلى الخلاف في استثناء الحداء لسير الإبل و الغناء في الأعراس.

قال بعض أعاظم الفقهاء في حاشيته على المكاسب: إنّ الدليل على حرمته الإجماع بقسميه المحصّل و المنقول.

«1»

و قال محشّ آخر: إنّ الأدلّة متطابقة على حرمتها. «2»

بل في الجواهر الإجماع بقسميه عليه؛ بل يمكن دعوى كونها ضرورة في المذهب. «3»

و في المستند: و لعلّ عدم الخلاف، بل الإجماع عليه مستفيض بل هو إجماع محقّق قطعا بل ضرورة دينيّة. «4»

______________________________

(1). حاشية المامقاني على المكاسب: 98.

(2). حاشية الإيرواني على المكاسب: 30.

(3). الجواهر: 22/ 44.

(4). المستند: 2/ 340.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 105

و الإشكال في الإجماع بأنّه أوّلا: غير محقّق لمخالفة البعض معه، و ثانيا: أنّه مدركيّ، و ثالثا: غير كاشف تعبّدا عن رأي المعصوم في غير محلّه، لأنّ المخالفة تحقّقت في القرون الأخيرة. نعم يمكن استدلال فقهائنا الأوّلين رضوان اللّه عليهم أجمعين بالروايات و الأحاديث و لكنّ الإنصاف يقضي بأنّ حرمة الغناء شي ء مسلّم عندهم.

و يدلّ عليها أيضا الأخبار المستفيضة التي وجودها في الوسائل يزيد على ثلاثين حديثا. و ادّعى في الجواهر تواترها كما سبق نقل ادّعاء الإيضاح تواترها أيضا.

و قال المحقّق القمّي قدّس اللّه تعالى نفسه في المحكيّ عن رسالته في الغناء حرمته في الجملة إجماعيّ، بل قيل هو إجماعيّ للمسلمين، بل الضروري من الدّين.

آيات مكّية و مدنية في حرمة الغناء

اشارة

و قد وردت آيات كريمة مكّية و مدنيّة في القرآن بالنسبة إلى حرمة الغناء و مفسّرة به؛ و ورود هذه الآيات الناهية عن الغناء و اللّهو و الباطل و الزور في السور المكّية شاهد على اهتمام الإسلام و القرآن من أوّل أمره إلى النهي عن هذه الأمور، و رفعها عن المجتمع العربي في ذلك اليوم.

و هذا أيضا شاهد على استهتار العرب بالسماع و الغناء- و لو بنحوه البدائي- و الخمر في الجاهليّة و اهتمام التعليم الإلهي بردعها و منعها

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 106

و إبادتها. و كذا

ورودها في السور المدنية شاهد على ارتكاب بعضهم لتلك المحرّمات، حتّى بعد مرور سنوات عن بعثة الرسول و هجرته إغراما بها و ولها إليها.

و قد أفاد الشيخ قدّس سرّه أنّ الأخبار في حرمة الغناء مستفيضة، و بدأ بها بعنوان تفسيرها للآيات التي فسّرت بالغناء؛ و لم يذكر الآيات المحرّمة المفسّرة بعنوانها مستقلّة، و هذا من جهة دلالة الآيات بمعونة تفسيرها بالروايات. فكأنّ المستمسك و الدليل هي الأخبار الواردة المفسّرة.

[قوله تعالى اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]

اشارة

و كيف كان قد أفاد أنّ الأخبار في حرمة الغناء مستفيضة، منها ما ورد مستفيضا في تفسير قول الزور في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. «1»

ففي صحيحة الشحّام، و مرسلة ابن أبي عمير، و موثّقة أبي بصير المرويّات في الكافي، و رواية عبد الأعلى المحكيّة عن معاني الأخبار، و حسنة هشام المحكيّة عن تفسير القمّي رحمه اللّه تفسير قول الزور بالغناء. «2»

______________________________

(1). الحجّ: 30.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 225- 230، باب 99 من أبواب ما يكتسب به.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 107

معنى الزور:

و (الزور) بضمّ الزاء- كما في التفاسير و كتب اللّغة مثل الصحاح و الصراح، و مجمع البحرين، و النهاية في غريب الحديث و الأثر و لسان العرب- الكذب و الباطل و التهمة، و كلام مزوّر أي مموّه و مزيّن بالكذب و الباطل. و في مجمع البيان روى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهّية. «1» و زاد في التبيان بغير حقّ. «2» و قول الزور قول الكذب، و قول الباطل و التهمة. و لا يخفى أنّ هذه العناوين إذا أضيفت إليها كلمة القول لا بدّ و أن تكون من مقولة الألفاظ و الكلام و القول.

و لازم ذلك بمقتضى الروايات الواردة، و تفسير قول الزور بالغناء فيها كون الغناء من مقولة القول و الكلام. مع أنّ الغناء كيفية الصوت و ليس من مقولة القول، و لا حرمته من جهة مدلول القول و بطلان الكلام؛ و سيجي ء اختلاف الأذواق و التعاريف في تعريفه، مع القطع بعدم إتيان الشارع بمعنى جديد و اصطلاح خاصّ للغناء في قبال العرف و اللّغة، بل هو كيفية خاصّة من صوت الإنسان الذي له حسن

متناسب مع نغمات خاصّة و ترنّمات مخصوصة من ألحان أهل الفسوق و العصيان لها شأنية الإطراب مطلقا، سواء كان المدلول حقّا أم باطلا، أم ليس في البين مدلول أصلا بأن يترنّم الإنسان بنغمات مهملة غير مفهمة للمعنى.

______________________________

(1). مجمع البيان: 4/ 82، طبعة صيدا.

(2). تفسير التبيان: 7/ 6277.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 108

تفسير قول الزور بالغناء:

و ظاهر تفسير الروايات: قول الزور بالغناء أنّ الغناء هو قول الزور، أو من مصاديقه حقيقة. مع أنّا نعلم أنّ أغلب موارد تحقّق الغناء؛ بل جميعها ليس من مقولة القول، بل هي من الكيفية الصوتيّة.

فبمقتضى التحفّظ على هذا الظهور، و صون كلام الخالق و المعصوم عن التناقض و التكاذب لا بدّ من أن يكون المراد من قول الزور معنى عامّا شاملا لهما- أعني: كون القول باطلا و زورا- إمّا من جهة اشتماله على المضمون و المدلول الباطل و الزور، أو من جهة كيفيّته باطلا و زورا فإضافة قول الزور من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته، و لو بتأويل مصحّح للإضافة، أعني القول الزور و الباطل. و نظير هذه الإضافة كثير، فمعنى اجتنبوا الزور أي: اجتنبوا عن قول و كلام، أو صوت كان باطلا إمّا مدلولا أو كيفيّة أو معا.

و هذا الاتصاف ينشأ إمّا من جهة كون المدلول مدلولا فاسدا لهويّا، أو من جهة كون المدلول كذبا و باطلا، أو من جهة كون الكيفيّة لهويّة باطلة. و لذا ورد في رواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سألته عن قول الزور قال: منه قول الرجل للذي يغنّي أحسنت. «1»

فقول الرجل للمغنّي أحسنت ليس بنفسه مدلولا فاسدا لهويّا، و لا من الغناء بشي ء بل باطل باعتبار تحسين الغناء، و تأييد المحرّم و

الباطل.

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 21.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 109

و مقتضى ظهور تفسير قول الزور بالغناء بقول مطلق. و إطلاق قول الزور و إرادة الغناء مقتض لاتّحادهما في الخارج، و كون الغناء هو قول الزور أو كونه مصداقا له تصحيحا للحمل، فيلزم صدق أحدهما على الآخر بالحمل الشائع. و هذا مقتضى ظهور جميع الأخبار المفسّرة الدالّة على أنّ الغناء هو قول الزور بتمام مصاديقه و هو تمام الموضوع لصدق قول الزور عليه.

و ربّما يستشكل في دلالة قول الزور على الغناء بأنّه أمر يحتاج إلى الدليل «1» أمّا كون القول أو الزور بمعنى الغناء فواضح عدمه. و لكن تطبيق قول الزور على الغناء فأمر مسلّم، حيث إنّ الإمام عليه السّلام قد نصّ بأنّه الغناء، فلا بدّ من أن يكون معنى قول الزور أعمّا من المضمون أو الكيفيّة، حتّى يشمل المعاني المتفاوتة؛ و كذا الحال في آيات اشتراء لهو الحديث و الإعراض عن اللّغو و عدم شهود الزور إشكالا و جوابا.

فظهر ممّا ذكرناه أنّ القول الباطل حرام ذاتا لا عرضا، سواء كان باطلا من جهة المضمون و المدلول، أو من جهة كيفيّة الأداء. فالغناء حرام ذاتا- و لو كان بدون مرافقة محرّمات أخر معه- لا عرضا مرافقا مع محرّمات أخر ناشئة حرمته من تلك المحرّمات.

[كيفية شمول قول الزور للكيفية اللهوية]

و لا يخفى ما أشرنا إليه في المقام مرارا من أنّ الكيفيّة اللّهويّة الباطلة هي المحقّقة لمفهوم الغناء و هي العلّة للتحريم سواء كان

______________________________

(1). استشكل في بعض المجلّدات، و العجيب أنّه استشكال في قبال النصّ الصريح.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 110

مدلوله الغنائي حقّا أو باطلا. و سيجي ء الكلام مفصّلا في أنّ للغناء

معنى عرفيّا و لغويّا، و لا إشكال في دخالة الكيفيّة في تحقّق معناه.

و إطلاق لفظة الغناء على مجرّد المدلول الباطل خلاف الظاهر العرفي و اللّغوي قطعا؛ و نقطع بعدم إتيان الشارع بمعنى جديد و اصطلاح خاصّ للغناء في قبال العرف و اللّغة، و بالنظر إلى المعنى الظاهر العرفي يتحقّق معناه- و إن كان المدلول حقّا بشهادة ورود النهي عن التغنّي بالقرآن بألحان أهل الفسوق و العصيان- و بهذا المعنى العرفي فهو محرّم و يجب الاجتناب عنه، بمقتضى الآية الشريفة فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «1» و مقتضى ظهور الأمر في الوجوب، سيّما مع ظهور مادّة الاجتناب و اقتران وجوب الاجتناب عن قول الزور مع الاجتناب عن الأوثان أن يكون المراد من قول الزور قولا محرّما كالكذب و التهمة و الافتراء و السخريّة، و تحسين المحرّم و تشويق العاصي و الفاسق و غيرها من المحرّمات. و كذا كيفيّة ملهية لهويّة باطلة كالغناء فهو محرّم و محكوم بوجوب الاجتناب بأيّ نحو و بأيّ قول تحقّق، و لو كان مهملا.

نعم لا بدّ في تحقّق معنى الغناء من صوت ترنّم و تغنّ من الإنسان- و لو بضميمة الآلات المحرّمة- و أمّا إيجاد الأصوات الموسيقيّة بالآلات فقط بلا قول و لا كلام من الإنسان فهو محرّم أيضا بمقتضى الروايات الناهية المشدّدة، و لكنّه ليس بغناء. بل هو من الموسيقى. و بعبارة

______________________________

(1). الحجّ: 30.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 111

أخرى الغناء: هو الذي نعبّر عنه بالفارسيّة ب (خوانندگى)، و عن الموسيقى ب (نوازندگى) و كلّ منهما باطل و محرّم بمقتضى الآيات و الروايات.

و لا إشكال في ظهور الأمر بالاجتناب و ظهور تفسير قول الزور بالغناء مطلقا حرمة الغناء

بقول من غير تقييد. و مقتضى ذلك كون الكيفيّة زوريّة لهويّة باطلة، و كون النغمات و الترنّمات من ألحان أهل الفسوق و العصيان- كما أشارت إليها الروايات- و الصوت الحسن من غير لهو و زور و لحن فاسق خارج عن معنى الغناء المحرّم و لا إشكال فيه. و في كونه نعمة و فضيلة من اللّه جلّ جلاله كما في مرسلة الفقيه في الجارية التي لها صوت: ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة يعني بقراءة القرآن و الزّهد و الفضائل التي ليست بغناء. «1» نعم يقع الكلام في مقدار البطلان و الهذر اللّذين يوجبان الغناء المحرّم، فإنّ مطلق الباطل المقابل للحقّ أعني: ما لا يكون فيه غرض عقلائي، و لا دخالة له في المعاش و المعاد أوسع من أن يكون محرّما و لا شبهة في عدم حرمته بهذا الإطلاق.

نعم ظهور سياق: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ سيّما مع إشعار مادّة الاجتناب قرينة على كون المراد من الباطل باطلا ملهيا مضرّا بأمر الدنيا و الدين قولا أو كيفيّة أو معا من

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 86، الحديث 2.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 112

ألحان أهل الفسوق و العصيان، بحيث يوجب الجرأة- و لو تدريجيّا- على الفسق و الفجور و التعشّق و التشبيب يحول دون طاعة اللّه تعالى، و يهوّن على الإنسان ارتكاب الفجور و الذنوب. و لذا قال قدّس سرّه في الجواهر: «نطقت الروايات بأنّه الباعث على الفجور و الفسق» «1» و سيجي ء الكلام مفصّلا.

[آية لهو الحديث]

اشارة

قال الشيخ قدّس سرّه: و منها أي: و من الروايات ما ورد مستفيضا في تفسير لهو الحديث- كما في صحيحة محمّد بن مسلم، و رواية مهران بن محمّد، و رواية

الوشّاء، و رواية الحسن بن هارون، و رواية عبد الأعلى السابقة المحكيّة عن معاني الأخبار. «2» و الآية الكريمة: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ. «3»

و في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: سمعته يقول:

الغناء ممّا وعد اللّه عليه النار، و تلا هذه الآية: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... الخ. «4»

و في رواية الحسن بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله و هو ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ

______________________________

(1). الجواهر: 22/ 50.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 226- 229، أحاديث 7، 11، 16، 20.

(3). لقمان: 6.

(4). وسائل الشيعة: 12/ 226، الحديث 6.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 113

النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. «1»

و لا يخفى وجه دلالة الآية الشريفة حسب تفسيرها في الروايات بالغناء على حرمته بمثل ما فصّلناه في الآية السابقة، حيث نعلم أنّ الغناء من مقولة الكيفيّة، و ظهور تفسير لهو الحديث بالغناء كون الغناء مصداقا له حقيقة أو حكما؛ فلا بدّ من أن يكون المراد من لهو الحديث- الحديث اللّهوي بما هو أعمّ من القول و الكلام و الحديث و الكيفيّة اللّهويّة المضلّة عن سبيل اللّه. و إضافة لهو الحديث في الآية من قبيل إضافة الصفة على الموصوف، أعني: الحديث اللّهوي كبارد الماء و يابس الخبز، أي الماء البارد و الخبز اليابس بخلاف آية الزور، فإنّ هناك كانت الإضافة إضافة الموصوف على الصفة و النتيجة واحدة.

و ما ذكرناه من جهة تفسير لهو الحديث بالغناء و إلّا- لو لا هذا التفسير لكان

ظاهر الآية الشريفة غير مرتبطة بخصوص الغناء، فإنّ ظاهر الآية حرمة اشتراء لهو الحديث. أي: الأخبار و القصص الباعثة على إلهاء الناس و إضلالهم عن سبيل اللّه؛ و يشهد على ذلك شأن نزول الآية كما ورد في التفاسير.

معنى الاشتراء:

و في مجمع البيان نزل في النّضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 228، الحديث 16.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 114

عبد الدار ابن قصيّ بن كلاب كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم، و يحدّث بها قريشا، و يقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد و ثمود، و أنا أحدّثكم بحديث رستم و اسفنديار، و أخبار الأكاسرة، فيستمعون حديثه و يتركون استماع القرآن.

و قيل نزل في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلا و نهارا. و يؤيّده ما رواه أبو أمامة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: لا يحلّ تعليم المغنّيات و لا بيعهنّ و أثمانهنّ حرام، و قد نزل تصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي ... و الذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان يضربان أرجلهما على صدره و ظهره حتّى يسكت. «1»

و في تفسير روح المعاني للآلوسي أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي الدنيا و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم، و صحّحه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصهباء، قال: سألت عبد اللّه بن مسعود عن قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو و اللّه الغناء. «2» و قد بحث الآلوسي في تفسيره مفصّلا في الغناء فراجع تفسير الآية فيه.

و من الواضح أنّ الغناء بحسب كثرة موارده لا يوجب الإضلال عن

أصول الدين و المعارف الخمسة، بل يوجب الخروج عن مطلق طاعة اللّه و الإقبال على الفسق و المعصية. فالمراد من الإضلال عن سبيل

______________________________

(1). مجمع البيان: 4/ 313، طبعة صيدا.

(2). تفسير الآلوسي، الجزء 21، ص 59.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 115

اللّه ذلك، سيّما مع النظر إلى موارد الروايات التي أشير فيها إلى المعاصي و الفجور الناشئة عن الغناء.

و نحن نعلم بعدم خصوصيّة لاشتراء الحديث- و إن كان في الآية بمعناه الحقيقي في مقابل البيع- و لكنّه مورد، و المورد غير مقيّد و لا مخصّص لإطلاق الحكم أو عمومه؛ لأنّا نقطع بأنّ الصدّ عن سبيل اللّه، و إضلال النّاس، و اتّخاذ آيات اللّه هزوا حرام بأيّ نحو تحقّق. فالاشتراء من باب المثال. و شأن القرآن النظر إلى معنى أوسع و أشمل من ظاهره و المورد أحد المصاديق المتعدّدة المتنوّعة. و الكيفيّة أعني الغناء: غير قابلة للاشتراء الحقيقي، فالمراد منه تحصيل الحديث اللّهوي بأيّ طريق حصل.

الاشتراء استعارة:

و الاشتراء استعارة لاختيار لهو الحديث على القرآن و استبداله به و ترويجه في قباله، حتّى في صورة كون الصدّ و الإضلال من جهة الكيفيّة التي هي أقوى من تأثير مضمون لهو الحديث و مدلوله. و لا شكّ أنّ الغناء من العلل المهمّة المؤثّرة في الأعصاب قويّا، و مهيّجة للمعاصي و الكبائر العظام باقتضاء ذاته و انجراره إلى ذلك، و لو كان بلا قصد إلى صدّ السبيل و إضلال النّاس. و عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: «الغناء رقية الزّنا» «1».

______________________________

(1). بحار الأنوار: 79/ 247، الحديث 26، طبعة طهران.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 116

و في تفسير روح المعاني أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي عن أبي عثمان الليثي

قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أميّة، إيّاكم و الغناء فإنّه ينقص الحياء، و يزيد في الشهوة، و يهدم المروءة، و إنّه لينوب عن الخمر، و يفعل ما يفعل السكر؛ فإن كنتم لا بدّ فاعلين فجنّبوه النساء فإنّ الغناء داعية الزّنا. «1» و هذه هي خاصية الغناء الذي بذاته و بإطلاقه داخل في الآية الشريفة، و أوعد اللّه عليه النار و اشتراء أحد لهو الحديث، سيّما الكيفيّة الغنائية لخصوص غرض الإضلال عن سبيل اللّه فرد و مصداق نادر جدّا، و لا يتناسب مع هذا الإطلاق غير القابل للتقييد، و حمله على مثل هذا الفرد في الآية الشريفة مستهجن جدّا. فلا بدّ من حمل اللّام في قوله تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ على النتيجة القطعيّة التي تحصل من مطلق الغناء، كاللّام في قوله تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «2» و في قول الشاعر:

له ملك ينادي كلّ يوم لدوا للموت و ابنوا للخراب

و لا مجال لكون اللّام للغاية حتى تخصّص الحرمة عند تحقّقها، و ذلك لعدم مفهوم لها و عدم مجال لصحّة هذا الحمل للاستهجان الذي أشرنا إليه.

نعم ترتّب الصدّ عن سبيل اللّه و الغفلة عن ذكر اللّه، و التورّط

______________________________

(1). تفسير الآلوسي، الجزء 21، ص 60.

(2). القصص: 8.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 117

التدريجي في الذنوب الكبائر على الغناء بذاته بمطلق إطلاق الآية الشريفة، و النتيجة القهريّة شاهد على أنّ الغناء يترتّب عليه ذلك- و لو تدريجيّا و بطول الزمان. و هذا يلائم مع كون الغناء من ألحان أهل الفسوق و العصيان الباعثة على الفجور و الفسق، و أمّا مجرّد حسن الصوت الذي هو من فضل اللّه تعالى إن ساعد على

التعالي إلى قرب اللّه و التوجّه إليه و التفاني في محبّته، و ساعد على ذكر الجنّة و النّار و الشوق إلى الباري جلّ شأنه، و تلطيف الروح و تشويقه إلى المبدأ الجميل و خالق الجمال، فهو حسن و فضيلة و كرامة من اللّه- كما يستفاد من روايات آداب قراءة القرآن، و خبر الجارية: ما عليك لو اشتريتها ذكّرتك الجنّة «1» و حتّى لو انضمّت الآلات و الأدوات التي ليست مخصوصة بمجالس الحرام إلى حسن الصوت كما في تعازي الحسين عليه السّلام و مواكبه أيّام عاشوراء، أو لتهييج جيش الإسلام، و قد شاهدنا أثرها القيّم في إبّان الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، فلا إشكال فيها. و من أمثال ذلك ما تداول في ساحات الرياضة، سيّما ما نسمّيه ب (زورخانه) من الطبل و قراءة الأشعار الصالحة- و إن كان الإنسان يتشوّق إليه و ليس من باب الفسق و الفجور، و قد سئل بعض أعلام العصر عن طبل (زورخانه) فقال: إن كان بزميّا فحرام، و إن كان رزميّا فحلال.

و البزم: مجلس الأنس و الطرب، و الرزم: الحرب و القتال.

______________________________

(1). مرّ مصدره.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 118

آية شهود الزور:

قال الشيخ قدّس سرّه: و منها أي: و من الروايات ما ورد في تفسير الزور في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «1» كما في صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام تارة بلا واسطة «2» و أخرى بواسطة أبي الصباح الكناني. «3» و قال قدّس سرّه: إنّ مشاهد الزور التي مدح اللّه تعالى من لا يشهدها هي مجالس التغنّي بالأباطيل من الكلام. فالإنصاف أنّها لا تدلّ على حرمة نفس الكيفيّة إلّا من حيث إشعار لهو الحديث بكون اللّهو

على إطلاقه مبغوضا للّه تعالى، و كذا الزور بمعنى الباطل و إن تحقّقا في كيفيّة الكلام لا في نفسه كما إذا تغنّى في كلام حقّ من قرآن، أو دعاء، أو مرثية. هذا. و نقول: الشهادة هو الحضور، و الحضور لا بدّ له من محضر و الآية الكريمة لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يحضرون الباطل و محاضره و ما لا يليق بمن يؤمن باللّه و يراقب حضوره و محضره، و يجتنب عمّا حرّمه قولا و فعلا، و نظرا و سماعا و غيرها. و لا يخفى أنّ أجلى البواطل و رأس الذنوب و منشأها، و سبب التورّط فيها هو الغناء. و لذا فسّر الزور بالغناء في الروايات، و هذا مع غضّ النظر عن تفسيره به فكيف بورود تفسير الزور بالغناء؟ فلا بدّ من حمل الزور على معنى يشمل الغناء قطعا.

______________________________

(1). الفرقان: 72.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 226، الحديث 5.

(3). وسائل: 12/ 226، الحديث 3.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 119

و لكنّ الآيات الشريفة التي تليها هذه الآية الكريمة في بيان الفضائل و المكرمات العالية الأخلاقية التي يتّصف بها عباد الرحمن الذين هم الممتازون بالعناية، و التوجّه إلى اللّه و التحفّظ على المراقبة و مكارم الأخلاق، حتّى الصفات التي لا تكون واجبة و لا لازمة مثل وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً «1» فلا يستفاد من الآية الكريمة حرمة الغناء. و في الآيات الأخر و الروايات المتكاثرة المتواترة، و الاتّفاق و الإجماع محصّلا و منقولا كفاية.

و بما ذكرنا يظهر مفاد الجملة الأخيرة في الآية الأخيرة التي أشرنا إليها أعني: وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً «2» و طبّق الغناء باللّغو فيما رواه الصدوق في عيون

الأخبار، و كذا فيما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أبي أيّوب الخزّاز «3»، و الحال في هذه الجملة حال الجملة السابقة في نفس الآية الكريمة مع كون سياق الكلام بمقتضى الدلالة اللفظيّة أيضا أعني: مرّوا كراما تنزيهيّا لا محرما.

و تبقى الآية الكريمة الأخرى و الأخيرة لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ «4». قال الشيخ قدّس سرّه: ممّا يدلّ على حرمة الغناء من حيث كونه لهوا و باطلا و لغوا رواية عبد الأعلى، و فيها

______________________________

(1). الفرقان: 64.

(2). الفرقان: 72.

(3). وسائل الشيعة: 12/ 226، الحديث 3.

(4). الأنبياء: 17.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 120

ابن فضّال قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء، و أنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه رخّص في أن يقال: «جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحيّكم» فقال: كذبوا، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ «1». ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف. رجل لم يحضر المجلس. «2» لا إشكال أنّ السؤال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء بمقتضى صراحة الرواية و التعبير بمن زعم أنّ رسول اللّه رخّص في كذا، مع أنّ الكلام المرخّص فيه ليس بباطل و لهو، فلا بدّ من أن يكون تكذيب الصادق عليه السّلام لترخيص النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم من جهة الكيفيّة اللهويّة الغنائيّة، سيّما بالنظر إلى قول الصادق عليه السّلام في آخر الحديث: ويل لفلان ممّا يصف. رجل لم يحضر المجلس، حيث إنّ نفس

الكلمات المرجّعة مذكورة في الرواية و ليس فيها ما يوجب حزازتها، بل هي محبوبة مشتملة على التحيّة، و لكن الكيفيّة اللحنيّة غير معلومة. و قول الصادق عليه السّلام: إنّه رجل لم يحضر المجلس حتّى يسمع الكيفيّة اللهويّة و يدّعي ترخيص النبيّ لها. و لا إشكال في ظهور الكلام في تكذيب ترخيص النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم لنفس هذا الكلام، فلا بدّ من أن يكون التكذيب لأجل الكيفيّة اللّهويّة لأداء نفس الكلمات- لا من جهة انضمام

______________________________

(1). الأنبياء: 17- 18.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 228، الحديث 15.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 121

محرّمات أخرى معها- و سيجي ء تتميم الكلام في الروايات إن شاء اللّه تعالى.

و ينبغي لنا أن نتوجّه هنا إلى الروايات الشريفة، و قد أشرنا سابقا إلى روايات متعدّدة مفسّرة للآيات التي فسّرت بالغناء و كذا وردت كثيرة أيضا في حرمة الغناء، و قد ذكرنا في منعقد الكلام ادّعاء تواترها من أعلامنا المحقّقين، و أشرنا هناك بأنّ كثرة الروايات الواردة تغنينا عن النظر إلى سند بعضها، أو ادّعاء ضعف راو أو مجهوليّته.

و من تلك الروايات ما رواه في الوسائل عن الكافي بطريقه عن علي ابن الريّان عن يونس قال: سألت الخراساني: (أي: الرّضا عليه السّلام) عن الغناء و قلت: إنّ العبّاسي ذكر عنك أنّك ترخّص في الغناء. فقال:

كذب الزنديق. ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء، فقلت إنّ رجلا أتى أبا جعفر فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل، فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل فقال: فقد حكمت. «1»

و رواها الصدوق في عيون الأخبار بسنده عن الريّان بن صلت قال:

سألت الرضا عليه السّلام يوما بخراسان إلى آخر الحديث.

«2»

صريح الرواية إنكار الإمام الرضا عليه السّلام أشدّ إنكار للترخيص في الغناء، و تكذيب العبّاسي و توصيفه بالزنديق لأجل نسبة هذا الترخيص إلى الإمام شاهد صريح على حرمة الغناء بذاته، و بإطلاقه بلا دخالة

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 227، الحديث 13.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 227، 14.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 122

لمقارناته في الحرمة. و السؤال عن الغناء بقول مطلق، و الجواب عنه كذلك. فتوجّه النفي و عدم الجواز و الترخيص إلى نفس الغناء بذاته، و كذا صراحة إنكار الإمام و تكذيب العبّاسي شاهدان على أنّ الباطل الواقع في قبال الحقّ حرام أو من مصاديق الحرام، بل تقرير الإمام الرضا عليه السّلام لقول أبي جعفر عليه السّلام لإعطاء ضابطة الحرمة في أمثال المقام، فلا مجال لما أفاده في المستند من أنّ عدم الترخيص أعمّ من المنع.

و التكذيب من الإمام لأجل تكذيب النسبة المخالفة للواقع إلى الإمام أبي جعفر لا للمنع و التحريم، و عدم معلوميّة كون المراد بالباطل القسم الحرام منه و ذلك لما عرفت أنّ كلّ هذه الأمور خلاف الظهور الواضح في الرواية، سيّما بهذا التشديد و التعيير الشديد، و ليكن إطلاق لفظة الغناء في هذه الرواية في ذكر منك لكي يفيدك عند ادّعاء إطلاقات الروايات منّا في المستقبل.

و منها: رواية محمّد بن الحسن في المجالس و الأخبار بسنده عن محمّد بن عمرو بن حزم في حديث قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: الغناء، اجتنبوا الغناء. اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ فما زال يقول: اجتنبوا الغناء، اجتنبوا، فضاق بي المجلس و علمت أنّه يعنيني. «1» هذا و إن كان يستشكل في طريق الرواية بأنّ نفس الراوي أعني: محمّد بن عمرو بن حزم مستهتر بالسماع

و الغناء بشهادة نفسه، و تكرير الصادق عليه السّلام:

اجتنبوا، اجتنبوا، فكيف تقبل روايته؟ و لوائح صدق الرواية، و نقل

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 230، الحديث 24.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 123

الراوي بنفسه ما يعيبه و يشينه شواهد على صدقها؟

و منها: ما رواه في جامع الكافي عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر؛ فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء، و النوح و الرهبانيّة لا يجوز تراقيهم. قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم. «1»

لا إشكال في ورود روايات كثيرة في تحسين الصوت و تلحينه في القرآن، و لكنّ هذه القراءات المستحسنة وضعت في الرواية في قبال لحون أهل الفسق و أهل الكبائر، و تفريعا على هذا و تعييرا جعل ترجيع القرآن في قبال ترجيع الغناء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم. و هذا شاهد على كون الغناء من لحون أهل الفسق و أهل الكبائر لا مجرّد مدّ الصوت و ترجيعه ترجيعا ذا خفّة، بل هو في عرف المتشرّعة غير المتطرّفين بمعنى الكيفيّة اللحنيّة الخاصّة المحرّمة من ألحان أهل الفسوق و العصيان؛ و لذا يقال في العرف مستهزئ بمن يتغنّى بالقرآن أ هو يقرأ القرآن أو يتغنّى؟

هذا.

و لا يخفى ورود روايات كثيرة بهذا المضمون بالنسبة إلى قراءة القرآن بألحان العرب مع الخشوع و الخضوع و التصدّع من خشية اللّه و الترتيل، و نهى فيها عن القراءة بألحان أهل الفسوق و العصيان، و عن

______________________________

(1). الوسائل: 4/ 858، الحديث 1.

الرسائل الفقهية

(للنجومي)، ص: 124

التّغنّي بها و اتّخاذ القرآن مزامير و غير ذلك. و نقلها يطول بنا، و قد نقلت في الوسائل فليراجع من أراد. «1»

و العجب ما ينقله في كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد أنّه سأل رجلا ممّن يتّصل به عن حاله فقال: جعلت فداك مرّ بي فلان أمس فأخذ بيدي فأدخلني منزله، و عنده جارية تضرب و تغنّي فكنت عنده حتّى أمسينا، فقال عليه السّلام: ويحك أما خفت أمر اللّه أن يأتيك و أنت على تلك الحال؟ إنّه مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله. الغناء أخبث ما خلق اللّه عزّ و جلّ، و الغناء أشرّ ما خلق اللّه. الغناء يورث الفقر و النفاق. «2»

فانظروا مجلس الغناء الذي فيه جارية تضرب و تغنّي و عندها رجال مستأنسون بها!! و الصادق عليه السّلام شدّد أمر الغناء نفسه و خبثه و شرّه دون مرافقاته بقوله عليه السّلام: «الغناء أخبث ما خلق اللّه و أشرّ ما خلق اللّه». و هذه الرواية التي لا شكّ في ملامح الصدق فيها صريحة بكون حرمة الغناء ذاتيّة و انضمام سائر المحرّمات إليه يزيد في حرمته و مبغوضيّته؛ و ظاهر الألف و اللّام في لفظة الغناء في الجنس و العموم لا العهد الخارجي المأنوس من غناء بني أميّة و العبّاس لعنهم اللّه.

و منها: روايات وردت في ذمّ الغناء بأنّه يورث الفقر، و أنّه نوح إبليس، و الصّاد عن ذكر اللّه، و عشّ النفاق و رقية الزنا، و يورث النفاق

______________________________

(1). الوسائل: الجزء 4، أبواب 21 و 22 و 23 و 24 و 25، و الوسائل، الجزء 12، باب 99.

(2). دعائم الإسلام: 2/ 206.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 125

و يعقّب الفقر و

ينبت النفاق، كما ينبت الماء الزرع. و هي مرويّة في البحار «1» و تفسير العياشي، و الخصال و الفقيه و الوسائل. «2»

و منها: روايات وردت في حال المغنّية و ثمنها و أجرتها و كسبها و الاستماع إليها، و كلّها حرام.

منها: ما رواه الكليني عن نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المغنّية ملعونة ملعون من أكل كسبها. «3»

و منها: ما رواه الصدوق في إكمال الدين في التوقيع الشريف بخطّ صاحب الزمان عجّل اللّه تعالى فرجه، و ثمن المغنّية حرام. «4»

و منها: ما عن قرب الإسناد عن إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنّيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار، و قد جعل لك ثلثها، فقال: لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنّية سحت. «5» و لا يخفى نكتة اقتران ثمن المغنّية بثمن الكلب، و المبالغة في حزازته و حرمته.

و منها: ما رواه الكليني بسنده عن إبراهيم بن أبي البلاد قال:

أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أن يبعن، و يحمل ثمنهنّ إلى

______________________________

(1). بحار الأنوار: 79/ 239- 263، باب الغناء، طبعة طهران.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 225، باب تحريم الغناء.

(3). الوسائل: 12/ 85، الحديث 4.

(4). وسائل الشيعة: 12/ 86، الحديث 3.

(5). الوسائل: 12/ 87، الحديث 4.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 126

أبي الحسن عليه السّلام، قال إبراهيم فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم و حملت الثمن إليه فقلت: إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته بيع جوار له مغنّيات و حمل الثمن إليك، و قد بعتهنّ و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم، فقال: لا حاجة لي

فيه، إنّ هذا سحت، و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق و ثمنهنّ سحت. «1»

و منها: ما رواه الكليني أيضا بسنده عن الحسن الوشّاء قال:

سئل الرضا عليه السّلام عن شراء المغنّية قال: قد تكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن الكلب، و ثمن الكلب سحت و السحت في النار. «2»

و منها: ما رواه الكليني بسنده عن سعيد بن محمّد الطاطري عن أبيه عن أبي عبد اللّه قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات فقال:

شراؤهنّ و بيعهنّ حرام، و تعليمهنّ كفر و استماعهنّ نفاق. «3»

و قد ورد كثيرا نظير هذه الروايات، و أورد في جوامع حديثيّة عن طرق الشيعة و السنّة: كالدرّ المنثور و كنز العمّال، و سنن ابن ماجة و تفسير الآلوسي و غيرها.

و قد أفاد الشيخ قدّس سرّه في المقام تأييدا لحرمة الغناء بقوله: لا يخفى أنّ الغناء على ما استفدناه من الأخبار، بل و فتاوى الأصحاب و قول أهل اللغة هو من الملاهي نظير ضرب الأوتار و النفخ في القصب

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 87، الحديث 5.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 88، الحديث 6.

(3). الوسائل: 12/ 88، الحديث 7.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 127

و المزمار. و قد تقدّم التصريح بذلك في رواية الأعمش الواردة في الكبائر فلا يحتاج في حرمته إلى أن يقترن بالمحرّمات الأخر.

حرمة اللهو:

و نقول: لا إشكال في كون الغناء المحرّم داخلا في الملاهي المحرّمة، و لا إشكال أنّ قسما من الملاهي محرّم، بل ظاهر جملة من الفقهاء حرمة مطلق اللّهو كالمحكيّ عن المبسوط و السرائر، و المعتبر و القواعد و المختلف و غيرها؛ و إن كان ظاهر جمع آخر خلافها. و قد صرّحت الروايات بحرمة اللّهو و الإلهاء، و في

رواية الفضل بن شاذان المرويّة عن العيون قد عدّ من الكبائر الاشتغال بالملاهي. و فيما عن المجالس للحسن بن محمّد الطوسي عن أبي الحسن عليّ بن موسى عليه السّلام عن آبائه عن عليّ عليه السّلام قال: كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر. «1»

و في رواية سئل الإمام أبو الحسن الرضا عليه السّلام عن شراء المغنّية قال: قد تكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن كلب، و ثمن الكلب سحت و السحت في النّار. «2»

و يقول اللّه تبارك و تعالى في ذمّ لهو الحديث: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ تفسيرا للغناء، أو الغناء ممّا أوعد اللّه عليه النار،

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 235، الحديث 15.

(2). الوسائل: 12/ 88، الحديث 6.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 128

و تلا هذه الآية.

و لا إشكال في صراحة الروايات و الأحاديث دخول عناوين محرّمة أخرى في الملاهي المحرّمة كذلك؛ كإلحاق سفر الصيد اللّهوي بسفر المعصية في روايات متعدّدة بسبب كون الصيد اللّهوي باطلا. ففي محكيّ المقنع و الهداية و الفقه الرضوي و الغنية عطف سفر الصيد على سفر المعصية؛ و ليس ذلك إلّا لأجل كون الصيد لهوا و باطلا. و لا إشكال في حرمة بعض مراتب اللّهو و اللّغو، و اللّعب و الباطل- إن كان كلّ منها غير الآخر- و كون النسبة بينها عموما من وجه. و قد عدّ من مصاديق هذه المحرّمات كبائر الذنوب مثل الشطرنج و القمار، لكونهما من الباطل في قبال الحقّ. و عدّ الغناء و لهو الحديث من الباطل أيضا، و لم يرخّص رسول اللّه الغناء لأنّه من الباطل. و في تفسير البرهان عن يونس بن عبد الرحمن رفعه قال: قال أبو

عبد اللّه عليه السّلام: ليس من باطل يقوم بإزاء الحقّ إلّا غلب الحقّ الباطل، ذلك قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ «1» إلى غير ذلك من تعيين الصغرى و تبيين الكبرى في المسألة.

و لكنّ الكلام في سعة دائرة هذا الحكم أعني: حرمة اللّهو و اللّغو، و اللّعب و الباطل إذ لا إشكال في جواز أنواع من الملاهي و الملاعب بالاتّفاق و الإجماع، فليس كلّ لهو و لغو و باطل بنظر العرف محرّما؛ حتّى ما يوجب الغفلة عن ذكر اللّه تعالى و الأدلّة الواردة

______________________________

(1). تفسير البرهان: 3/ 54؛ تفسير نور الثقلين: 3/ 416.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 129

و الروايات و الأحاديث ليست بحيث يثبت حرمة كلّ لهو و لغو و باطل، بل و لا كراهتها بسعة دائرتها.

و لعلّ أغلب أمورنا من اللّهو و اللّعب، و أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ. و من هذه الجهة تستأنس النفوس الإنسانيّة إلى اللّهو و اللّعب استيناسها بالحياة الدنيا، و كلّ مرتبة من اللّهو تمهّد النفس الإنسانية للتورّط إلى مرتبة أزيد منها، و لذا يكره اللّهو في أغلب الموارد تحفّظا عن تورّط النفس و انجرارها إلى مرتبة الحرام منه.

و فيما رواه زيد النرسي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: أمّا الشطرنج فهي الذي قال اللّه عزّ و جلّ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ فقول الزور: الغناء. إنّ المؤمن عن جميع ذلك لفي شغل. ما له و الملاهي؟ فإنّ الملاهي تورث قساوة القلب. و تورث النفاق. و أمّا ضربك بالصوالج، فإنّ الشيطان معك يركض. و الملائكة تنفر عنك، و إن أصابك شي ء لم تؤجر و

من عثرت به دابّته فمات دخل النّار. «1»

المحرّم من اللهو:

فالمحرّم من اللّهو و اللّغو و الغفلة هي التي تمهّد التورّط و السقوط في المعاصي و انتزاع الحياء من الإنسان، و لم يبال بما قال و لا ما قيل فيه،

______________________________

(1). بحار الأنوار الجزء 79، هامش الصفحة 239؛ مستدرك الوسائل: 13/ 216.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 130

كما في الرواية عن جعفر بن محمّد عليه السّلام أنّه قال: من ضرب في بيته برباط أربعين صباحا سلّط اللّه عليه شيطانا لا يبقى عضوا منه إلّا قعد عليه. فإذا كان ذلك نزع منه الحياء، فلم يبال بما قال و لا ما قيل له. «1»

و ابتداء المراتب المحرّمة عدم المبالاة بالدخول في المعاصي- كما ورد في الغناء أنّه رقية الزّنا «2»- و الرقيّة تحصّل بالتدرّج و التصعّد. و المحرّم ما يلهي و يصدّ عن ذكر اللّه بلا فرق بين كونه من مقولة الأقوال و الأصوات مضمونا أو كيفيّة، أو آلات طرب أو غير ذلك، أو الاستماع إليها و الجلوس في مجالسها. و التمثيل بالغناء و ضرب الأوتار تمثيل لسنخ ما يكون صادّا عن ذكر اللّه تعالى و أحكامه- كما قال اللّه تبارك و تعالى في سورة المائدة، آية 92-: إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.

مشكلة الموضوع:

هذا ما ذكرناه بالنسبة إلى حكم الغناء و المشكلة الصعبة في المسألة تعيين موضوع الغناء المحرّم، و لعلّ أغلب الخلاف في المقام ناشئ من هذه الناحية، بل ربّما يستفيد الذين في قلوبهم زيغ من هذه الناحية و يتّبعون ما تشابه و يجوّزون ما لا يجوز، و يعتزّون بآراء ابن سينا

______________________________

(1). مستدرك الوسائل: 13/ 217.

(2). مرّ سنده.

الرسائل

الفقهية (للنجومي)، ص: 131

و الفارابي و الكندي و زكريّا الرازي و غيرهم و يجعلون نظراتهم و أذواقهم في قبال فقهائنا الأعاظم، و ربّما يتّهمون الفقهاء- عصمنا اللّه من سوء الأدب- بعدم معرفة حقيقة موضوع حرمة الغناء معرفة تامّة- معرفة توافق أحلامهم و أطرابهم-.

و ربّما يقولون إنّ الموسيقى و الغناء المظلومين قد وقعا في أيدي الفجّار و الفسّاق و أصحاب الخمور و الفواحش و الزناء و المخدّرات، و هم غافلون أنّ الموسيقى و الغناء قد أجرتهم و أجرأتهم على ارتكاب الآثام و الذنوب. و عبّر في الروايات عن الغناء بأنّه رقية الزنا و عشّ النفاق، و زنا السمع و البصر. و هذه هي خاصيّة الموسيقى و الغناء و كثيرا ما ينجرّ من أصيلها إلى رذيلها، و من ثمينها إلى رخيصها، و من قصورها و سرائرها إلى مقاهيها و ملاهيها. و ربّما يدّعون عدم معلوميّة سعة دائرة الموضوع و ضيقها، و عدم تبيينها حتّى من قبل الشرع. و ما يمكننا أن نقول أنّ المستفاد من عبارة الإمام الباقر عليه السّلام في الرواية: يا فلان، إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال عليه السّلام: قد حكمت. «1» إحالة معرفة موضوع الغناء و الحقّ و الباطل إلى نظر العرف و أهله و تأييد النظر العرفي أيضا بقوله: قد حكمت. و لا إشكال أنّ دائرة الموضوع وسعتها و ضيقها، سيّما القسم الخاص بمجالس اللّهو و الطرب منه في كلّ صقع من أصقاع العالم بطرائق مختلفة و متفاوتة تختلف حسب اختلاف العصور و الأزمان،

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 227، الحديث 13.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 132

و الأذواق و الإبداعات، و التصويرات. ما أحسن التعبير في

الرواية بألحان أهل الفسوق و العصيان!! فإنّه تعبير يتطوّر و يتنوّع في كلّ عصر و مصر باختلاف أنواعها و اختلاف الأزمنة و الأمصار، و أهل الفسوق و العصيان بالنسبة إلى كلّ اجتماع و زمان، و يختلفون باختلاف أنحاء الفسوق و العصيان.

تعاريف الغناء:

و على كلّ قد عرّف الغناء بتعاريف مختلفة تزيد على اثني عشر تعريف، و الظاهر أنّ كلا منهم قد عرّف الغناء بعنوان أنّه من مفردات العرف، و هو يختلف حسب الأقوام و العصور و الأزمان. و قد أشير إلى هذه التعريفات في الكتب الفقهيّة، و أطنبوا الكلام فيها ردّا و إبراما.

و من العجيب أن نعرّف الغناء بالصوت- كما في مصباح المنير- فإنّ هذا من قبيل شرح الاسم لا ينفع و لا يضرّ بشي ء في المقام.

و الإنصاف أنّ أغلب التعاريف الواردة في المقام تعاريف أعمّ من وجه من الغناء، و لا تلائم حرمة الغناء، و ليست مواردها محرّمة قطعا كمدّ الصوت أو رفعه أو حسنه أو تحسينه و ترقيقه- كالمنقول عن محمّد بن إدريس الشافعي في النهاية-، و لا تحسين الصوت و الترنّم- كما نسب إلى الحنبليّة- و لا مدّ الصوت و موالاته- كما في لسان العرب و النهاية-، و لا مدّ الصوت بالألحان- كما في الفقه على المذاهب الأربعة-، و لا رفع الصوت و موالاته أي مدّه و متابعته. و هذه التعاريف أعمّ من وجه

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 133

من الغناء المعهود المحرّم، و ليست جامعة و لا مانعة لموضوع حرمة الغناء، فربّما يتحقّق هذه العناوين. و ليست من الغناء، بل مستحسنة في نظر الشرع كما يشهد له تأكيد الشرع على تحسين الصوت و تحزينه عند قراءة القرآن الكريم. و إنّ من أجمل

الجمال الشعر الحسن، و نغمة الصوت الحسن «1»، و ما بعث اللّه نبيّا إلّا حسن الصوت. «2»

و لا إشكال أنّ الصوت بجميع هذه التعريفات ليس غناء في نظر العرف، بل جميع هذه الأمور و التعريفات من اللوازم العامّة للغناء.

و قد قال الشيخ قدّس سرّه: إنّ كلّ هذه المفاهيم ممّا يعلم عدم حرمتها، و عدم صدق الغناء عليها. و من هذه الجهة أي: عدم وفاء هذه التعريفات بحقيقة الغناء زادوا عليها كلمات الترجيع و الإطراب و التطريب، مثل الصوت المشتمل على الترجيع، أو المشتمل على الترجيع المطرب؛ و قيل إنّ هذا المعنى هو المشهور بين الفقهاء، و لا الصوت ما طرّب به و لا الصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب لما يمكن أن يكون صوت غير مطرب و لا مرجّع. و هو في العرف من الغناء و ربّما يكون مفهم و محرّك للقلب و ليس هو من الغناء كمضامين الأشعار الراقية و المواعظ المؤثّرة، و لا الصوت المرجّع- الذي يعدّ من اللّهو- ذو مضمون باطل و فاسد و لا الصوت الجميل لأنّه ليس من الغناء قطعا، و هو من نعم اللّه لا من نقمه.

______________________________

(1). الأصول من الكافي: 2/ 615، الحديث 8.

(2). المصدر السابق: 616، الحديث 10.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 134

و بالجملة غير خفيّ عدم وفاء هذه التعريفات بحقيقة الغناء، و عدم جامعيّتها و مانعيّتها، حيث يمكن تحقّق مفهوم الغناء المحرّم عرفا بلا ترجيع و إطراب، و يمكن عدم تحقّق مفهوم الغناء حتّى مع الترجيع و الإطراب. و لذا قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه: المحرّم هو ما كان من لحون أهل الفسوق و المعاصي التي ورد النهي عن قراءة القرآن بها سواء كان مساويا للغناء أم

أعمّ أو أخصّ، مع أنّ الظاهر أنّه ليس الغناء إلّا هو. و لو كانت هذه التعريفات المتشابهة المتفارقة للغناء صحيحة متطابقة للزم استثناء الأكثر المستهجن للعلم بجواز موارد كثيرة من مصاديق هذه التعريفات. و مقتضى ظهور الآيات المفسّرة و الروايات حرمة الغناء بقول مطلق من دون استثناء، فكيف بالاستثناء المستهجن؟ فلا بدّ من أن يكون معنى الغناء معنى محرّما مطلقا بلا حاجة إلى التقييد و التخصيص و التخريج.

الغناء ليس من مقولة القول:

و من الواضح أنّ الغناء ليس من مقولة القول و الكلام- بل هو من الكيفيّة الصوتية من الإنسان المغنّي دون الأصوات الغنائيّة لغير الإنسان، مثل الطيور و البلابل. و قد ذكرنا سابقا أنّ العرف قاض و حاكم بكون الغناء من الكيفيّة قطعا. و لهذا قلنا أنّ تفسير قول الزور، أو لهو الحديث، أو شهادة الزور و أمثالها في الآيات الشريفة بالغناء لا بدّ من أن يكون المراد منها معنى عامّا شاملا للكلام الباطل و الحرام،

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 135

إمّا من جهة مادّته كالكذب و البهتان، و التشبيب بالمصونة، أو من جهة كيفيّته كالغناء، أو من جهة تأييده لما هو المحرّم كقول الإنسان للمغنّي أحسنت. فالغناء من مقولة الكيفيّة؛ و يشهد على أنّ الغناء من مقولة الكيفيّة لا من القول ما ورد في النهي عن ألحان أهل الفسوق و أهل المعاصي.

و الشيخ الأعظم قدّس سرّه بعد ما يفيد أوّل كلامه بأنّ الغناء ما كان مشتملا على الكلام بالباطل و اللّهو و اللّغو، و لكنّه يعترف بعد نقل الآيات و الأحاديث بأنّ حرمة الغناء من حيث اللهو و الباطل، و من مقولة الكيفيّة للأصوات لا من جهة المضمون و المدلول، بمعنى أنّ الكيفيّة المذكورة موضوع للحرمة و لا

مدخلية لمادّة الصوت في الحرمة حقّا كان أم باطلا. لأنّه من الواضح أنّ من سمع من بعيد صوتا ذا كيفيّة مطربة مناسبة مع الرقص و ضرب الآلات يحكم على هذا الصوت بالغناء، و لا يتأمّل في إطلاقه عليه، بلا فرق بين مادّته الملهّية حقّا كان باطلا.

تشخيص الموضوع بنظر العرف:

و من هنا، و من قول الإمام صلوات اللّه عليه: قد حكمت يتحصّل لنا أنّ الميزان و المعيار في تحقّق موضوع الغناء المحرّم في الشريعة الصدق العرفي، و هذا يتغيّر بحسب الأزمنة و الأمكنة. ففي سابق الزمان كانت آلات الطرب ساذجة بسيطة، و بمرّ الزمان زيد فيها

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 136

شي ء حتّى اتّسعت دائرتها و كيفيّاتها و أنواعها، و أصبحت اليوم متنوّعة فتعجب بها. هذا، و ما ذكرناه لا يتنافى مع حرمة مادّة الكلمات من ناحية اللّهو و اللّغو و الإيذاء، و الكذب و التشبيب و أمثال ذلك- كما لا يكون مطلق الصوت اللّهوي غناء- و إن كان من أقبح الأصوات و أردإها. و حرمة مثل هذا الصوت اللّهوي غير حرمة الغناء، فإنّ الغناء هو الكيفيّة الصوتيّة اللّهويّة- و هذا غير حرمة لهويّة المضمون و المدلول بلا مدّ و ترجيع في البين، و النسبة بينهما عموم من وجه.

و قد ذكرنا سابقا أنّ مفاهيم الباطل و اللّهو و اللّغو أوسع من أن تكون بسعتها محرّمة، حتّى و لا مكروهة، و لكنّا نعلم من تفسيرها بالغناء المحرّم في المقام أنّ الغناء من المصاديق القطعيّة للمحرّم منها لنصوصيّة الروايات في الموارد. و لهذا نقول أنّ الكيفيّة المخصوصة التي تعدّ من اللّهو و الباطل لا بدّ و أن تكون من ألحان أهل اللّهو و الباطل، و خاصّة لمجالسهم التي تناسب الرقص

و الخلاع و الشهوات. و ما أحسن ما أفاده الشيخ قدّس سرّه أنّ المرجع في اللّهو إلى العرف، و الحاكم بتحقّقه هو الوجدان، حيث يجد الصوت المذكور مناسبا لبعض آلات اللّهو و الرقص، و لحضور ما يستلذّ القوى الشهويّة بأيّ نحو كان من المرافقات و الضمائم. و أنت قد عرفت سابقا أنّ كلا من التعاريف الواردة تعريفات عرفيّة بنظر المعرّفين، و ليس للغناء من قبل الشرع موضوع خاصّ و مصطلح مخصوص؛ و أنت إن شئت فقل إنّ الروايات عيّنت موضوع الغناء المحرّم بأنّه ألحان أهل الفسوق و العصيان، و في

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 137

الرواية: اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر، فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، و قلوب من يعجبه شأنهم. «1»

و قد جعل هذه الألحان في قبال الصوت الحسن و في قبال اللحن المستحسن للقرآن المجيد. و مدح حسن الصوت في الروايات لا يدلّ على جواز الغناء، فإنّ النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.

و صريح مرسلة الصدوق تقابل الغناء مع حسن الصوت. سأل رجل عليّ بن الحسين عن شراء جارية لها صوت فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور. «2»

إن قلنا بأنّ الذيل من الرواية لا تفسيرا من شيخنا الصدوق أعلى اللّه مقامه. نعم إنّ الغناء يحتاج إلى حسن الصوت حسنا موجبا لتحقّق الغناء عرفا كالصوت الجميل المتناسب الذي له شأنيّة الإطراب لأغلب الناس، و المناسب لمجالس اللّهو و المعاصي، بلا فرق بين كون المضمون باطلا و

لهوا أو حقّا و حكيما، أو بلا مضمون و مدلول أصلا- و إلّا فنفس الحسن الذاتي للصوت الإنساني ليس غناء و لا محرّما و لا محزوزا، بل نعمة إلهيّة ممدوحة شرعا، و كرامة مستحسنة عقلا و لا يكون

______________________________

(1). الوسائل: 4/ 858، الحديث 1.

(2). الوسائل: 12/ 86، الحديث 2.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 138

حراما قطعا.

و هو الهادي إلى معرفة الحقّ جلّ و علا، و المذكّر لجنّته و المشوّق إلى نعيمه، و المنذر و المحذّر من نار الجحيم و المخوّف من عقابه، و الغارس في القلوب الطاهرة و الضمائر الصافية حبّ الفضائل و كره الرذائل.

و هذا كلّه بخلاف الغناء الذي يتعاطاه أهل الفسق و الفجور يثير الشهوة و يهوّن المعاصي الكبائر، و يجرّ إلى حفلات اللّهو و الرقص، و يؤدّي بصاحبه إلى السقوط في هوّة الجهل و يجلب عليه الويلات ماديّا و معنويّا و خلقيّا.

موضوع الغناء في نظر العلّامة الأصفهاني

و لنرجع حينئذ إلى مبتدأ الكلام في موضوع الغناء فقد أشرنا أنّ التعاريف المختلفة منظور فيها من النواحي المختلفة، و لنشر في الختام إلى التعريفين اللّذين هما عصارة التعاريف السليمة، و هما تعريف العلّامة الأوحدي النابغ الشيخ محمّد رضا الأصفهاني- نجل العلّامة التقي الفائز بعناية اللّه جلّ جلاله الشيخ محمّد الحسين الأصفهاني-، و تعريف الإمام الخميني أعلى اللّه مقامهما الشريف.

أمّا التعريف الأوّل:

الغناء صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس و الطرب هو الخفّة التي تعتري الإنسان فتكاد تذهب بالعقل و تفعل المسكر لمتعارف الناس أيضا.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 139

و قال الإمام الخميني- قدّس اللّه سرّه الشريف-: الإنصاف أنّ ما ذكره و حقّقه أحسن ما قيل في الباب، و أقرب بإصابة الواقع- و إن كان في بعض ما

أفاده مجال المناقشة-. أمّا كون هذا التعريف أحسن ما قيل و أقرب بإصابة الواقع لعدم ورود الإشكالات التي ترد على سائر التعاريف المذكورة في الباب.

و قد تعرّض هو نفسه قدّس سرّه بأنّ تقييد الصوت بصوت الإنسان لمتابعة العرف فإنّ أصوات البلابل- و إن تناسبت و أطربت- لا تسمّى غناء و بقيد التناسب يخرج ما أوجب الطرب بغيره من حسن الصوت اللّغوي ذاتا أو لحسن صاحبه أو لحسن ألفاظه و معانيه و نحو ذلك، و بقيد المتعارف يخرج الخارج عنه فلا اعتبار بمن هو كالجماد كما لا اعتبار بمن يطرب بأدنى سبب.

ثمّ قال:

فذلكة القول أنّ الغناء هو الصوت المتناسب الذي من شأنه بما هو متناسب أن يوجد الطرب أعني: الخفّة، فما خرج منه فليس من الغناء في شي ء و إن كان الصائت رخيم الصوت حسن الأداء و أحسن كلّ الإحسان و وقع في سامعه أقصى مراتب الاستحسان فبين كلّ من الغناء و الصوت المستحسن عموم من وجه، و لقد أحسن الشيخ قدّس سرّه في قوله الغناء ما كان مناسبا لبعض آلات اللّهو و الرقص فإنّ النسب الموسيقيّة تنطبق على النسب الإيقاعيّة و لذلك يطابق أهل اللّهو

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 140

بينهما. «1»

مراد الشيخ من المناسبة مع آلات اللّهو:

و نقول: إنّ مراد الشيخ بما كان مناسبا لبعض آلات اللّهو و الرقص هو الصوت الذي يناسب مناسبة ما آلات اللّهو و الرقص بحيث يمتزج كلّ من الصوت و الآلة و يشكّلان تشكيلة واحدة و يوجبان الطرب- و هي الخفّة التي تعتري الإنسان لشدّة سرور و فرح- و الحالة التي تعتري الإنسان و تخرجه عن حالته الطبيعية المتوازنة، بل ربّما توجب عروض حالة أشبه بالسّكر- كما أشار إليه العلّامة المذكور قدّس سرّه-، و

لا إشكال أنّ كثيرا من الأنغام الدينيّة و القراءات المستحسنة حسن جميل تكون موافقة و متناسبة مع أنغام خاصّة للموسيقى، و جمال الصوت الحسن بجمال تناسبه و نغمه؛ و لكنّها ليست من الأنغام المتناسبة لمجالس اللّهو و الطرب و اللعب- مجالس أهل الفسق و الفجور- و لا يحتاج وضوح هذا عرفا إلى بيان و توضيح.

و من البديهي أنّ مثل هذه التشكيليّة الغنائيّة بمراتبها المختلفة ضعيفة أو قويّة تناسب مناسبة ما النسب الموسيقيّة و الإيقاعيّة و تتلاءم معها تلاؤما قهريّا؛ و لا يكون مراد الشيخ بيان تناسب النسب الموسيقيّة و الإيقاعيّة، و لزوم مراعاة هذه النسب أو لزوم كون الغناء مناسبا مع الموسيقى الكلاسيكيّة المضبوطة على القواعد. و نحن نعلم أنّ الغناء

______________________________

(1). رسالة الروضة الغناء، طبعت في مجلة نور علم، العدد المسلسل 16.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 141

كالموسيقى فنّ جميل و مهتمّ به، و صناعة خاصّة مبنيّة على قواعد مقرّرة متناسبة منظّمة بين النغمات و الأصوات موجبة للخفّة و الطرب، و لذّة السماع. و كلّ تلك القواعد و الأصول ظريفة متناسبة متلائمة- و هو الشأن في كلّ جميل-، و الجمال الحقيقي يتحقّق بالتناسب و التلاؤم، و لكن رعاية الدقّة الكاملة في قواعد الموسيقى و أنغام الغناء لا يفيد ناشئا بالنسبة إلى تحقّق معنى الغناء عرفا، و تشخيص موضوع الغناء المحرّم شرعا لا يكون بنظر متخصّصي أهل الموسيقى و أساتيذهم لأنّهم ينظرون إلى الغناء كفنّ جميل من الفنون الجميلة، و يراعون فيه الميزان الفنّي لا الغناء العرفي؛ فربّما يكون الغناء غناء عرفا و محكوما بالحرمة لترتّب آثارها عليه بنظر العرف دون أهل الخبرة و الفن.

تعريف الإمام الخميني قدّس سرّه

و ينبغي لنا الآن أن ننقل تعريف الغناء بما ذكره الإمام

الخميني قدّس سرّه بقوله: إنّه صوت الإنسان الذي له رقّة و حسن ذاتي- و لو في الجملة- و له شأنيّة إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف النّاس.

و قد أحكم قدّس سرّه تعريفه بقوله فخرج بقيد الرقّة و الحسن صوت الأبحّ الرديّ الصوت. و إنّما قلنا له شأنيّة الإطراب لعدم اعتبار الفعلية بلا شبهة، فإنّ حصول الطرب تدريجيّا قد لا يحصل بشعر و شعرين، فتلك الماهيّة و لو بتكرار أفرادها لها شأنيّة الإطراب، و هذا بوجه نظير ما ورد في المسكر: بأنّ ما كان كثيره مسكرا فقليله حرام. و ماهية الغناء

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 142

كذلك، فلا ينافي عدم مطربيّة بعض مصاديقه فعلا، و قيّد التناسب لأجل أنّ الصوت الرقيق الرخيم إن لم يكن فيه التناسب الموسيقى، لا يكون مطربا و لا غناء، بل لا يتّصف بالحسن حقيقة، فالمدّ الطويل لا يكون غناء و لا مطربا و لو كان في كمال الرقّة و الرخامة؛ و لو قيل أنّه حسن يراد به رقّته و رخامته و صفاؤه الذاتي. و التقييد بشأنيّة الإطراب لمعرفيّة التناسب الخاص أي: التناسب الذي هو واحد من الألحان الموسيقيّة.

الإشكال في اعتبار الرقّة:

و هذا التعريف لعلّه أحسن التعاريف لأنّه منتقى من التعاريف الواردة، و لكنّا نقول أنّ المراد من الرقّة في التعريف إن كان حسن الصوت، و كون العطف عطفا تفسيريّا، فهو مقبول و إن كان غيره، فالظاهر أنّه غير معتبر بعد اعتبار الحسن الذاتي و خشونة الصوت في قبال رقّته إن كانت، بحيث توجب خروج الصوت عن الغناء، فهذا خروج موضوعي و إن لم توجب. و كان العرف يرى الصوت غناء- و لو بدون رقّة- فيحكم بتحقّق الغناء و يلزم عدم اعتبار الرقّة في تحقّق معنى

الغناء عرفا. ثمّ لا إشكال أنّ المراد من الإطراب الشأني لمتعارف الناس هو الإطراب الخاصّ الذي ينشأ عن غناء مجالس اللّهو و اللعب الذي يناسب الرقص و آلات الموسيقى لا الطرب الحاصل من قراءة أشعار التغزّل العرفاني و التعشّق إلى المبدأ الأعلى بصوت حسن، حتّى من

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 143

قراءة آيات قرآنية قراءة مستحسنة شرعا لا بألحان أهل الفسوق و العصيان.

الغناء محرّم بإطلاقه

و ما يهمّنا أن نشير إليه في المقام أنّ الغناء بقول مطلق و بلا قرينة صارفة، أو معيّنة حكم عليه بالحرمة في الروايات و الأحاديث، و لم يدّع أحد أنّ الشارع قد أتى بمعنى جديد و اصطلاح خاصّ في قبال العرف- و لو مقيّدا للمعنى العرفي-. فالغناء العرفي و الشرعي هو المرتبة المحرّمة المخصوصة من الصوت الحسن بالشرائط و القيود المتقدّمة آنفا. و لا يكون معنى الغناء العرفي أعمّ من الغناء الشرعي، و لا الشرعي مخصوصا و مقيّدا بقيود خاصّة في قبال العرفي. و يشهد على ذلك أنّا لا نرى موردا وصف حسن صوت الأئمّة الطاهرين، و الأتقياء الكاملين و القرّاء الكرام بأنّه تغنّى بصوت حسن جميل، بل التعابير من قبيل أنّه كان حسن الصوت جميل القراءة. جيّد اللّحن، و أمثال ذلك، و يقال فيمن يقرأ القرآن بألحان الغناء أنّه يقرأ القرآن أم يتغنّى مستهزئ به؟

و أمّا من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا، فهو بمعنى آخر غير الغناء- و سيجي ء بيانه في كلام سيّد أعلام الطائفة علم الهدى سلام اللّه عليه في أماليه- و بالجملة نحن نرى أنّ الغناء بما هو غناء بلا استثناء و تخصيص وقع موضوعا للحرمة بلا تكلّف، و بلا قرينة على كون المراد مفهوما في قبال المفهوم اللّغوي

و العرفي، فلا بدّ من أن تكون لفظة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 144

الغناء حقيقة في الغناء المحرّم، و إن لم يكن كذلك فهو منصرف قطعا إليه بحيث صار حقيقة فيه مستغنية عن إقامة القرينة على ذلك؛ و يشهد على هذا إطلاق كلمة الغناء بدون تقييد في كلمات الأئمّة المعصومين و كلمات الأصحاب قديما و حديثا، و لم ينبّه أحد على خلافه مثل عبارة الرواية «قلت: إنّ العبّاسي ذكر أنّك ترخّص في الغناء» أو رواية الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الغناء عشّ النفاق» و في روايات أخرى: «الغناء رقية الزنا». و الغناء ممّا وعد اللّه عليه النّار. و المغنّية ملعونة ملعون من أكل كسبها. و أجر المغنّي و المغنّية سحت. و استماع الغناء و اللّهو ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. و بيت الغناء لا يؤمن فيه الفجيعة و لا تجاب فيه الدعوة، و لا يدخله الملك. شرّ الأصوات الغناء. و غيرها من العبارات.

آلات الغناء المختصّة و المشتركة:

و سيجي ء تفصيل الكلام أنّ مقتضى هذا الظهور موضوعيّة نفس الغناء بذاته في الحكم من دون تقييد بكونه مرافقا مع سائر المحرّمات التي ترافق و تناسب مجلس الغناء كالخمر و الرقص، و الغواني و الجواري و النساء السافرات. و تلك المرافقات كلّ منها محكوم بالحكم الخاصّ المتعلّق به من الحرمة و غيرها كآلات الموسيقى فإنّها مختلفة فبعضها مختصّ بمجالس اللّهو و اللّغو و الطرب و الرقص و الغناء المحرّم، و بعضها مشترك بين مجالس المعصية و غيرها مثل: موارد التعزية

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 145

و استعراض الجيش و عرصات الحرب. فهذه الآلات ليست محرّمة بإطلاقها، بل تابعة للغناء المرافق لها.

ثمّ لا إشكال في فعليّة حرمة الغناء

و تنجّزها عند العلم بكون المصداق و المورد غناء- كما هو الشأن في فعليّة كلّ حكم بفعليّة موضوعه-.

حكم الغناء في موارد الشبهات:

و أمّا لو قلنا بأنّ للغناء مصاديق مشكوكة أيضا كسائر المفاهيم و العرف مشتبه في بعض هذه المصاديق أيضا؛ فمقتضى المصاديق المشكوكة و الشبهات الموضوعيّة و المفهوميّة: هو التمسّك بأصل البراءة و الحليّة- كما هو الشأن في سائر الشبهات الموضوعيّة و المفهوميّة-.

و لكنّ الإنصاف أنّ في بعض المصاديق و الموارد التي يتحيّر فيها غالب المتديّنين المتمسّكين بأصل البراءة و الحليّة في الشبهات الموضوعيّة أيضا لا ينبغي ترك الاحتياط، حيث إنّها من الموارد التي لا يعلم حالها إلّا بالفحص الدقيق، و لا يحصل الظنّ القوي و الوثوق بحقيقتها إلّا بعد النظر العميق فتكون من الموارد التي يجب فيها الفحص، و لا تجري فيها البراءة. و جواز التغنّي في بعض الأوقات- كالموارد المشكوكة- لا ينافي مع حزازة العمل و سفالة الغناء لكونه لغوا، و المؤمنون عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 146

حرمة الغناء ذاتيّة:

ثمّ لا يخفى ما ذكرنا سابقا أنّ المستفاد من عمومات الغناء هو الحرمة الذاتيّة للغناء، و انضمام سائر المحرّمات إليه يزيد في حرمته و شناعته. و ربّما نسب إلى بعض الأعلام الأساطين عدم الحرمة الذاتيّة للغناء، بل هو محرّم بسبب انضمام سائر المحرّمات إليه كآلات اللّهو و دخول الرجال على النساء و الكلام الباطل. و ربّما أساءوا الأدب إلى ساحة المحقّقين العظيمين: الملّا محسن الكاشاني- صاحب جامع الوافي و غيره- و المحقّق السبزواري- صاحب كفاية الأحكام- و طعنوا عليهما بانكارهما حرمة الغناء و تخصيصهما الحرمة بمقارناته و ملازماته.

فينبغي لنا نقل كلامهما و بيان المراد منه و في مستندهما.

كلام الفيض

قال المحقّق الكاشاني أعلى اللّه مقامه في جامعه الوافي في المجلد الثالث، ص 35- بعد نقل روايات الباب-: و الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة فيه اختصاص حرمة الغناء، و ما يتعلّق به من الأجر و التعليم و الاستماع و البيع و الشراء كلّها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني أميّة، و بني العبّاس من دخول الرجال عليهنّ، و تكلّمهنّ بالأباطيل و لعبهنّ بالملاهي من العيدان و القصب و غيرهما دون ما سوى ذلك كما يشعر به قوله عليه السّلام: «بالتي يدخل عليها

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 147

الرجال». قال في الاستبصار بعد نقل ما أوردناه في أوّل الباب: الوجه في هذه الأخبار الرخصة فيما لا يتكلّم بالأباطيل و لا يلعب بالملاهي و العيدان و أشباههما و لا بالقضيب و غيره، بل يكون ممّن يزفّ العروس و يتكلّم عندها بإنشاد الشعر، و القول البعيد عن الفحش و الأباطيل.

و أمّا ما عدا هؤلاء ممّن يتغنّين بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال سواء كان في

العرائس أو غيرها. و يستفاد من كلامه أنّ تحريم الغناء إنّما هو لاشتماله على أفعال محرّمة. فإن لم يتضمّن شيئا من ذلك، جاز.

و حينئذ فلا وجه لتخصيص الجواز بزفّ العرائس- و لا سيّما قد وردت الرخصة به في غيره- إلّا أن يقال أنّ بعض الأفعال لا تليق بذوي المروّات- و إن كان مباحا- فالميزان فيه حديث: من أصغى إلى ناطق فقد عبده. و قول أبي جعفر صلوات اللّه عليه: إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ و على هذا فلا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة ذكر الجنّة و النّار، و التشويق إلى دار القرار، و وصف نعم اللّه الملك الجبّار، و ذكر العبادات و الترغيب في الخيرات، و الزهد في الفانيات و نحو ذلك- كما أشير إليه في حديث الفقيه بقوله عليه السّلام:

فذكّرتك الجنّة- و ذلك لأنّ هذه كلّها ذكرا للّه تعالى و ربّما تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ «1» و بالجملة لا يخفى على ذوي الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حقّ الغناء من باطله. و إنّ أكثر ما يتغنّى به المتصوّفة في محافلهم من قبيل

______________________________

(1). الزمر: 23.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 148

الباطل. انتهى كلامه بتمامه أعلى اللّه مقامه.

و قال الشيخ قدّس سرّه: لو لا استشهاده بقوله ليست بالتي تدخل عليها الرجال أمكن بلا تكلّف تطبيق كلامه على ما ذكرنا من أنّ المحرّم هو الصوت اللّهوي الذي يناسب اللعب بالملاهي و التكلّم بالأباطيل، و استشهاده بالرواية ظاهر في التفصيل بين أفراد الغناء لا من حيث نفسه؛ و لذا صوت المغنّية التي تزفّ العرائس، و هو على سبيل اللّهو لو قلنا بإباحته

قد خصّصناه بالدليل.

و لكن لا يخفى عليك عدم ملائمة انطباق مختار الشيخ مع ما يصرّح به رحمه اللّه بقوله على النحو المتعارف في زمن الخلفاء من دخول الرجال عليهنّ و تكلّمهنّ بالباطل، و لعبهنّ بالملاهي من العيدان و القصب، و غيرهما، دون ما سوى ذلك من أنواعه. فكلامه صريح في التفصيل بين أفراد الغناء من حيث الحلّيّة و الحرمة، و مقتضى كلامه رحمه اللّه تقسيم الغناء إلى أفراد محلّلة كالمقترن بذكر الجنّة و النّار، و التشويق إلى دار القرار، و وصف نعم اللّه الملك الجبّار، و ذكر العبادات و الترغيب في الخيرات، و الزهد في الفانيات، و أفراد محرّمة كالمقترن بالمحرّمات و الملاهي و العيدان و القصب و التكلّم بالأباطيل، و اختلاط الجنسين في مجالس الأنس و السهرات.

كلام المحقّق السبزواري

و نسب هذا القول إلى المحقّق السبزواري- صاحب الكفاية

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 149

أيضا-. و قال الشيخ قدّس سرّه: إنّ الموجود فيها- بعد ذكر الأخبار المتضادّة جوازا و منعا في القرآن و غيره- أنّ الجمع بينها يمكن بوجهين:

أحدهما: تخصيص الأخبار المانعة بغير القرآن و حمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللّهو، كما يصنعه الفسّاق في غنائهم تأييدا برواية عبد اللّه بن سنان: اقرءوا القرآن بألحان العرب، و إيّاكم و لحون أهل الفسوق و الكبائر و سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء.

و ثاني الوجهين: حمل الأخبار المانعة على الفرد الشائع في زمن الأمويّين و العبّاسيّين بمقتضى شيوع الغناء على سبيل اللّهو من دخول الجواري و غيرهنّ في مجالس الفجور و الخمور و العمل بالملاهي و التكلّم بالباطل، و إسماعهنّ الرجال في ذلك الزمان فحمل المفرد المعرّف- يعني لفظ الغناء-

على الأفراد الشائعة في الزمان المذكور غير بعيد.

و أيّد المحقّق السبزواري هذا الحمل برواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر و الأضحى و الفرح؟ قال: لا بأس به ما لم يعص به. «1» و رواية اقرءوا القرآن الآنفة الذكر، و رواية أبي بصير: «ليست بالتي يدخل عليها الرجال» و قال رحمه اللّه: إنّ فيه، أي في قول الإمام- إشعارا بأنّ منشأ المنع في الغناء هو بعض الأمور المحرّمة المقترنة به- كالالتهاء و غيره- إلى أن قال: إنّ في عدّة من أخبار المنع عن الغناء إشعارا بكونه لهوا باطلا، و صدق ذلك في القرآن و الدعوات

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 85.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 150

و الأذكار المقروّة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للجنّة المهيّجة للشوق إلى العالم الأعلى محلّ تأمّل. مضافا إلى التعارض الواقع بين أخبار الغناء و الأخبار الكثيرة المتواترة الدالّة على فضل قراءة القرآن و الأدعية و الأذكار بالصوت الحسن، مع عموم هذه الأخبار و كثرتها و موافقتها لأصل البراءة.

و النسبة بين الموضوعين عموم من وجه، فإذا لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللّهو و الاقتران بالملاهي و نحوهما لأنّه مادة افتراق روايات المنع. و في غير هذه الصورة- إن تحقّق إجماع- فهو، و إلّا فالحكم هو الإباحة و طريق الاحتياط واضح. انتهى كلاما المحقّقين الفيض و السبزواري رحمهما اللّه.

و قد طعن الأصحاب في شأن هذين المحقّقين الورعين لحكمهما بحلّية الغناء ذاتا و حرمة مقارناته و دعوى جواز التغنّي بالقرآن، و استثناء حرمة الغناء فيه من قبل المحقّق السبزواري.

و قال المحقّق البهبهاني رحمه اللّه في حواشي المسالك: و صاحب الكفاية استثنى الغناء في القرآن، و سمعت

أنّ الفضلاء كتبوا رسائل كثيرة أزيد من عشرين رسالة ردّا عليه كلّهم تلامذة وحيد عصره و فريد دهره الآقا حسين الخوانساري رحمه اللّه كلّهم كانوا من أوحديّ الزمان و قد عرفت أنّ أحدا من فقهائنا ما استثنى هذا، بل المحقّق و جماعة ممّن تأخّر عنه حكموا بحرمة الغناء في القرآن. انتهى.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 151

التعرّض لعبارة الفيض:

و لنرجع إلى عبارة الفيض و هي قوله: دون ما سوى ذلك من أنواعه و كذا قوله رحمه اللّه: فإن لم يتضمّن شيئا من ذلك جاز. و قد نقل الشيخ قدّس سرّه كلام الفيض بعبارة: «و إلّا فهو في نفسه غير محرّم». و لا يخفى أنّ عدم تحريم الغناء في نفسه محتمل لوجهين

أحدهما: عدم اتّصاف الغناء بالحرمة أصلا، و إنّما المتّصف بها ما اقترن به من الملهّيات و المحرّمات. فالنهي عن تلك المجالس و الملهّيات و المقترنات و عن الغناء باعتبار لزوم الاجتناب عنها، و إلّا فهو غير محرّم أصلا.

ثانيهما: عدم اتّصاف الغناء بالحرمة بحسب الذات، لكنّه محرّم باعتبار اقترانه بتلك المحرّمات؛ بمعنى أنّ الغناء قد اتّصف بالتحريم أيضا كتلك الملهّيات و المحرّمات المقترنة به، فهو أيضا معاقب عليه؛ كما أنّ كلا من الملهّيات الأخر معاقب عليها في حدّ ذواتها.

و الكلام في أنّ ظاهر كلام المحدّث الكاشاني أ هو الوجه الأوّل، أو الثاني؟ و يمكن ادّعاء ظهور كلامه في الثاني أعني كون الغناء محرّما إذا اقترن بالمحرّمات الأخر بمقتضى ظهور كلماته في هذا، مثل قوله:

اختصاص حرمة الغناء و ما يتعلّق به من الأجر و التعليم و الاستماع و البيع و الشراء بما كان على النحو المتعارف، فإنّ ظاهره أنّ الغناء متّصف بالحرمة. و كذا قوله بعد ذلك: دون

ما سوى ذلك من أنواعه

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 152

أي: أنواع الغناء. فيوجّه الحكم إلى نفس الغناء و يدفعه عنه. و كذا قوله في آخر عبارته.

و بالجملة: فلا يخفى على أهل الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حقّ الغناء عن باطله، و كذا نقول بمثل هذا في كلام المحقّق- صاحب الكفاية رحمه اللّه- مثل قوله: و الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللّهو، و كذا قوله: فحمل المفرد المعرّف يعني لفظ الغناء على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد. و كذا قوله: إنّ فيه إشعارا بأنّ منشأ المنع في الغناء هو بعض الأمور المحرّمة المقترنة به؛ و ظهور هذه الجمل في توجّه الحرمة إلى نفس الغناء مضافا إلى مقارناته غير خفيّ.

و من الشواهد القويّة على تعلّق الحرمة بنفس الغناء استثناء الفقهاء من أصحابنا الموارد المختلفة عن حرمة الغناء كالتغنّي بالقرآن، أو المواعظ أو ذكر اللّه تعالى أو المراثي أو الحدي أو العرائس. و مثل هذا القول أعني: كون نفس الغناء محرّما بشرط اقترانه بسائر الملهّيات مسندا هذا القول و الفتوى إلى نظر فقهي اجتهاديّ كدعوى قصور إطلاقات الحرمة أو انصرافها أو تعارضها ليس أمرا عجيبا خلافا للإجماع و المذهب، و موجبا للإساءة بساحتهما و الطعن في شأنهما و لا يحتاج إلى الضوضاء. فالصواب التمسّك بالبرهان في الجواب- كما فعله الشيخ الأنصاري قدّس سرّه- فالأولى و الأحرى بنا أن نتوجّه إلى مستمسكاتهما في المقام و الجواب عنها، فنقول:

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 153

ظهور الروايات في الحرمة الذاتيّة

إنّ أوّل ما ينبغي التعرّض له قضية إطلاقات الروايات و ظهوراتها في الحرمة الذاتيّة المطلقة بلا قصور فيها و بلا سبب للانصراف عنها.

فنقول:

لا إشكال في ظهور الروايات في الإطلاق

مثل: الغناء شرّ الأصوات و عشّ النفاق. و الغناء يورث النفاق و يعقّب الفقر. و الغناء رقية الزنا. و الغناء داعية الزنا. و قلت: إنّ العبّاسي ذكر أنّك ترخّص في الغناء! فقال: كذب الزنديق. و أمثال ذلك- مثل الروايات المفسّرة لقول الزور أو شهادة الزور، أو لهو الحديث بالغناء-. و قد تقدّم الكلام مفصّلا في بيان كيفيّة دلالة الآيات على دخول الغناء في الزور و شهادة الزور و لهو الحديث.

و قد عرفت أنّ الغناء قد حمل بإطلاق على الزور. و كذلك حمل القول الباطل أو قول القائل أحسنت للمغنّي و شهادة الباطل كلّها على الزور بلا تكلّف فلا بدّ من أن يراد بالزور معنى عامّا يشمل الجميع. و مقتضى الحمل المذكور و صحّته الاتّحاد بين المبتدأ و الخبر و لو وجودا. و مع صراحة الإطلاق و اندراج كلّ تلك المعاني فيه، كيف نرفع اليد عنه؟ بل مع صحّة مثل هذا الحمل و ظهوره و إطلاقه في كلام المعصوم سلام اللّه عليه لا يجوز الغضّ عن هذا الإطلاق، و لو لم يندرج الغناء في الزور، أو لم نعلم باندراجه فيه لإمكان إلحاقه بالزور حكما

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 154

بمقتضى هذا الحمل. و إن قلنا سابقا أنّ مقتضى ظهور الحمل بلا تكلّف و قرينة، و اقتضاء الحمل الاتّحاد- و لو وجودا- كون الغناء مصداقا حقيقيّا للزور؛ و لازم ذلك سعة مفهوم الزور. و قد أشرنا سابقا عند التعرّض بالروايات إلى إطلاقها سيّما في صحيحة الصدوق عن يونس الذي نقلناها عن الكافي و العيون عند التعرّض بالروايات مفصّلا، و لا حاجة إلى تجديد البيان.

و قد مرّ الكلام فيما أفاده الشيخ قدّس سرّه أنّ الغناء من الملاهي و

داخل في عمومات حرمة اللّهو. و قد تعرّضنا مفصّلا لحرمة اللّهو و سعة دائرتها و لكلام الشيخ قدّس سرّه. هذا، و ربّما قالوا مستشكلا في المطلب دفعا للإطلاقات و بانصرافها إلى الغناء المتعارف المعهود في زمني السلطتين الفاسدتين بني أميّة و بني العبّاس، حيث إنّ الغناء في تلك الأزمنة كان مقارنا مع أنواع المعاصي و الملاهي و ارتكاب القبائح و الفواحش، و الخلوة مع الغلمان و الجواري الغانيات، و التغنّي بالأشعار المهيّجة و المورثة لإثارة الشهوة و الزنا. هذا، و لكن لا يخفى أنّ ظواهر بعض الروايات تنافي هذا الانصراف مثل الحسنة الموثّقة رواية عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء و قلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم رخّص في أن يقال جئناكم جئناكم، حيّونا حيّونا نحيّكم فقال:

كذبوا. إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ* بَلْ

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 155

نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ ثمّ قال ويل لفلان ممّا يصف- رجل لم يحضر المجلس-. «1»

و من الواضح ظهور الكلام في عدم اقتران سائر الملهّيات بقول جئناكم جئناكم مع عدم كون أغلب تلك الملهّيات في زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم بحيث تكون موجبة للانصراف. و قد أشرنا سابقا أنّ القول المشار إليه في الرواية ليس قولا باطلا، بل شريفا كريما بمقتضى التحيّة فيها. فعدم الترخيص من أجل الكيفيّة المحرّمة الباطلة. فالغناء محرّم بذاته سواء كان من جهة مضمونه و مدلوله، أو من

جهة كيفيّته و أدائه.

و يمكن أن يدّعى مثل الظهور في بعض الروايات الأخر- مثل صحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء يجلس إليه قال: لا. «2» حيث إنّ ظهور الرواية في تعمّد الرجل الغناء فقط دون انضمام سائر المحرّمات إليه. و مثل هذه الروايات شواهد على عدم مجال لقبول دعوى الانصراف في سائر الروايات- و إن كان ظاهرها ذلك- لحكومة هذه الروايات المطلقة غير القابلة للانصراف عليها، و ذلك لكون الروايات المطلقة كالمفسّرة لظواهر غيرها مع أنّ أصل دعوى الانصراف منظور فيه لأنّ كثرة أفراد طبيعة مطلقة توجب انصراف المطلق حيث تكون الكثرة قرينة عرفيّة معتمدة عليها في تقييد ذلك المطلق، حتّى يصير المطلق مقيّدا بالتفاهم العرفي.

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 228، الحديث 15.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 232، الحديث 32.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 156

و العجب أن يدّعى كون حرمة الغناء عند اقتران هذه الملهيّات المحرّمة بحيث تكون هي السبب لحرمة الغناء، مع أنّ مقتضى كثير من الروايات أنّ التورّط في الملهيّات بسبب اقتضاء ذاتية الغناء لذلك. فإنّ ذات الغناء شرّ الأصوات، و عشّ النفاق، و رقية الزنا، و داعيته و مورث الفقر. فاقتضاء الغناء هو جلب الملهيّات و جذب المحرّمات إليه دون العكس، و لذا انجرّ الغناء الجاهلي إلى مفاسد و قبائح و فواحش العهدين الخبيثين الأموي و العبّاسي لعنة اللّه عليهم أجمعين. و قد نقل في التاريخ عن ليالي بغداد الحمراء: أنّ في العهد العبّاسي كانت قرابة ثلاثة آلاف جارية مغنّية يغنّين في الليالي المقمرة فوق دجلة في قوارب عيش و سرور، و لذّة و خمور، و سيجي ء الإشارة إلى هذا عند استثناء مغنّية الأعراس و الزفاف خاصّة.

الاستشهاد لتقييد الإطلاقات:

و أمّا

الاستشهاد بالروايات لتأييد المحقّقين الكاشاني و السبزواري رحمهما اللّه، فهو أيضا غير مفيد لتقييد إطلاقات الحرمة، فينبغي النظر إلى تلك الروايات منها صحيحة أبي بصير قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال. و الرواية و نظائرها في الوسائل، ج 12، ص 84. و قدّمنا الصحيحة على غيرها لكونها أصحّ و إن استشكل فيها بالضعف تارة بأبي بصير، و أخرى بعليّ بن أبي حمزة، و ثالثة بحكم الحنّاط، و لكن

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 157

الشيخ قدّس سرّه يقول في آخر البحث: إنّ الإنصاف أنّ سند الروايات و إن انتهت إلى أبي بصير، إلّا أنّه لا يخلو من وثوق، و على كلّ غاية ما يقال في ظهور جملة (و ليست بالتي يدخل عليها الرجال) في التقييد و العلّية.

فالجملة بمنزلة تعليل حرمة غناء المغنّية و حرمة أجر غنائها من جهة دخول الرجال على النساء، و عدم حرمة الغناء بذاته. و لكن هذا الظهور مخالف لجميع ظواهر الإطلاقات و الأدلّة المتقدّمة الدالّة على حرمة الغناء بذاته- كرواية نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المغنّية ملعونة. ملعون من أكل كسبها في خصوص المقام و الرواية مطلقة غير مقيّدة.

و كذا مضمون التعليل المذكور مخالف للإجماع المدّعى محصّله و منقوله من أساطيننا العظام. و ما يسهّل الخطب في الرواية أنّ مثل هذا المضمون وارد في رواية أخرى لأبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنّيات فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ

مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. «1»

و جملة «التي يدخل عليها الرجال» مقدّمة على «التي تدعى إلى الأعراس» و الظاهر وحدة مضمون الروايتين فلا تعليل بين الجملتين المذكورتين، و ظهور الروايتين في إفادة حكمين أحدهما استثناء خصوص غناء مغنّية الأعراس و الزفاف خاصّة عن عموم مضمون رواية نصر بن

______________________________

(1). الوسائل: 12/ 84.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 158

قابوس التي نقلنا إطلاقها آنفا، و مضمون رواية حكم الحنّاط عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها. و ثانيهما حرمة غناء المغنّية التي يدخل عليها الرجال بلا مفهوم لذلك صونا عن التناقض في الروايات و صدرها و ذيلها. و ذكر خصوص دخول الرجال على مغنّية الأعراس و الزفاف دون سائر المحرّمات لأجل غلبة هذا الأمر عند هذا الأمر. و لكن ذكره في الرواية بعنوان كونه أحد مصاديق اشتراء لهو الحديث للإضلال عن سبيل اللّه، فالمستثنى على تقدير القول به هو غناء المغنّية في الأعراس بشرط عدم اكتنافه بمحرّم آخر من التكلّم بالأباطيل و اللّعب بآلات الملاهي المحرّمة، و دخول الرجال على النساء كما أشار إليه الشيخ الأعظم قدّس سرّه.

و لا يخفى أنّ تقيّد حرمة غناء المغنّية باقتران سائر المحرّمات إليه مثل:

دخول الرجال عليها حتّى لو ادّعينا ظهور «و ليست بالتي تدخل على الرجال» في التعليل و تقييد الحكم تأييدا له مخالف لجميع الأدلّة الدالّة على أنّ الغناء حرام، و مخالف للإجماع، بل ادّعى الاتّفاق على حرمة غناء المغنّية حتّى في الأعراس و الزفاف بلا استثناء له. و سيجي ء تفصيل الكلام في هذا الاستثناء كما أشرنا إليه سابقا.

و ممّا يمكن أن يستعان بها على مدّعى المحقّقين المذكورين

ظاهر رواية علي بن جعفر عن أخيه على ما رواه في الوسائل، ج 12، ص 85 عبد اللّه بن جعفر في قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن بن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 159

و الأضحى و الفرح؟ قال: لا بأس به ما لم يعص به. و رواه عليّ بن جعفر في كتابه؛ إلّا أنّه قال: ما لم يزمر به.

أقول: هذا مخصوص بزفّ العرائس و الفطر و الأضحى إذا اتّفق معه العرس، و يمكن حمله على التقيّة، و يحتمل غير ذلك انتهى ما في الوسائل. و من المحتمل جدّا أن تكون رواية عليّ بن جعفر عين الرواية الأولى إلّا أنّ في الثانية «ما لم يزمر به» و في الأولى «ما لم يعص به». و قالوا إنّ الرواية الأولى ضعيفة بعبد اللّه بن الحسن لكونه مجهولا، و هو مقبول لكثرة روايته عن علي بن جعفر و الرواية متلقّاة بالقبول. و نقل الشيخ قدّس سرّه عن الكفاية عدم إبعاد إلحاقها بالصحاح.

و غير خفيّ أنّ ظاهر سؤال عليّ بن جعفر عن صلاحيّة الغناء في خصوص الفطر و الأضحى و الفرح أنّه عارف بحرمة الغناء و عدم صلاحيّته في غير هذه الموارد، و لكنّه تردّد في صلاحيّة الغناء بمناسبة عيدي الفطر و الأضحى أو الأعياد الملّية التي عبرت عنها بالفرح، أو قياسا بالأعراس و الزفاف. و إن قلنا بأنّ الظاهر هو معرفة عليّ بن جعفر بحرمة الغناء، فلا يناسب مع كون المراد من السؤال الصوت الحسن الأعمّ من الغناء المحرّم- كما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه-، بل الظاهر سؤاله عن جواز الغناء في العيدين.

و ما يمنع عن إمكان كون الغناء في الأعياد و أيّام الفرح جائزا بحسب ذاته؟ ما لم يقترن بمعصية مرافقة له مثل: المضامين الركيكة المثيرة للشهوة و الخلاعة و الفحش و الكذب، و الإيذاء و الإهانة و غيرها من المحرّمات كالمزامير و العيدان و القصب.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 160

و الإنصاف أنّ ظهور الباء في (ما لم يعص به) في قوله عليه السّلام: (لا بأس به ما لم يعص به) في السببيّة أو الاستعانة. و الضمير راجع إلى الغناء، فالمعنى لا بأس بالغناء ما لم يعص بنفس الغناء، أي: ما لم يصل إلى حدّ المعصية. و المراد بقوله عليه السّلام: ما لم يزمر به. ما لم يتغنّ في المزمار أو غنّي بالمزمار. فمقتضى التعبير الأوّل حرمة الغناء بذاته بخلاف الثاني لتوجّه الحرمة من جهة التغنّي بالمزمار، أو ترجيع الغناء ترجيع المزمار بأيّ معنى نفسّر ما لم يزمّر به. و على كلّ لا بدّ من أن يكون المراد من الغناء الذي سئل عن صلاحيّته أعمّ من الغناء المحرّم، و حيث قلنا أنّ الغناء بقول مطلق محرّم بحسب الأدلّة، فمثل هذه التعبيرات الواقعة في الروايات أعني: كونه محرّما و محلّلا حسب النظر العرفي و الإطلاق المسامحي، أو حسب نظر المسائل من إطلاق الغناء على مطلق الصوت الحسن. و مثل هذه الرواية مع عدم الدلالة على حلّية الغناء في العيدين الشريفين، و عدم الدلالة على استثناء عن الغناء المحرّم هل تصلح أن تكون مقيّدة للمطلقات الكثيرة، أو مخصّصة للعمومات الواردة؟ سيّما بعد تجويز الغناء المحرّم الملهي في اليومين المعدّين لطاعة الباري و التوجّه إليه و الصلاة و الأدعية و الأذكار، و عدم القائل بمثل هذا الجواز و الاستثناء

بين فقهائنا الأكارم. فظهر أنّ مثل هذه الروايات أيضا لا يكون منافيا لحرمة الغناء الذاتية، بل مؤيّدة لها و لا يكون استثناء عن إطلاقاتها و مطلقاتها.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 161

توهّم التعارض بين الأدلّة:

و ربّما يتمسّك- تأييدا لما أفاده المحقّق السبزواري من استثناء الغناء بالقرآن- بعمومات أدلّة قراءة القرآن و حسن الصوت فيها، أو قل بجواز الغناء في قراءة القرآن، و زد عليه جوازه في المراثي و النوحة على الأئمّة المعصومين المظلومين صلوات اللّه عليهم أجمعين تمسّكا بعمومات أدلّة قراءة القرآن و الإبكاء و الرثاء. و حيث إنّ بين هذه الأدلّة و العمومات الناهية عموم من وجه. و قالوا إنّ مقتضى القاعدة بعد التعارض بينهما التساقط و الرجوع إلى الأصل- و هو الجواز في موارد الاجتماع- كقراءة القرآن و المراثي باللحن الغنائي. و إن كان لنا في هذه القضيّة أعني: كون القاعدة عند التعارض التساقط نظر و سنبيّنه. و لا يخفى أنّه لو قلنا بوقوع مثل هذا التعارض، فيلزم المشي عليه أيضا عند توجّه سائر المستحبّات إلى الغناء- كإكرام الضيف و إدخال السرور في قلب المؤمن بالغناء-؛ و حتّى بسائر المحرّمات، بل يلزم توسعة مثل هذا الجواز عند تعارض كلّ دليل في المستحبّات مع أدلّة المحرّمات، إذا كان بينهما عموم من وجه. و مقتضى هذا جواز ارتكاب كلّ حرام صادف عنوانا استحبابيّا، بل قس على هذا وقوع التعارض بين أدلّة المكروهات مع الواجبات و المحرّمات؛ فيلزم جواز ترك واجب معارض مع مكروه جائز الترك، أو فعل حرام معارض مع مكروه جائز الفعل.

و قال الإمام الخميني قدّس سرّه: بأنّ هذا مستلزم لفقه جديد و اختلال فيه. و لم يختلج ذلك التعارض و العلاج في ذهن فقهاء الشريعة و

ليس

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 162

مبنى فقه الإسلام على نحوه، و هو كاف في فساد هذا التوهّم.

و لا يخفى أنّ أدلّة حرمة الغناء عامّة و مطلقة آبية عن التخصيص و التقييد، و إطلاقات حسن قراءة القرآن و الترجيع فيه و الترتيل. و كذا أدلّة الإبكاء و الرثاء مطلقات و لا تعرّض لكلّ منهما بالآخر، و لا تكون هذه المطلقات في الطرفين ناظرة إلى حالات الأفراد و العوارض التي تعرض بعد، و لا تكون كلّ منهما ناظرة إلى الأخرى و لا فعليّة كلّ منهما و لا تنجّزهما مقيّدة بفعليّة الأخرى و تنجّزها و لا بعدم فعليّتها و لا تنجّزها. فحرمة الغناء في المقام فعليّة منجّزة. و استحباب قراءة القرآن و الرثاء على سيّد أباة الضيم أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام كذلك، و لا تعارض بين الدليلين؛ و إنّما يقع التزاحم عند اجتماع فعليّة الحكمين في موارد الاجتماع، حيث إنّ بين موضوعي الحكمين عموم من وجه. و من الواضح عدم مجال لجريان البراءة عند التزاحم. و قضيّة التعارض بين الأدلّة ترجع في الحقيقة إلى التزاحم، حيث إنّ الفرض في باب التعارض شمول أدلّة الحجّية لكلا الطرفين المعارضين، و التعارض ينشأ من شمول أدلّة الاعتبار بلا تساقط في البين. مع الفرق في أنّ في باب التزاحم يدور أمر الامتثال بين التكليفين اللّذين يستدعيان الإطاعة و الامتثال. و في باب التعارض ليس كذلك لأنّ مفاد أدلّة الاعتبار جعل الحجّية لا الحكم التكليفي المستدعى للامتثال، و ينبغي لنا التعرّض لهذه القضية و بيان حقيقة قضية التعارض و الأصل الأوّلي عندها- و إن كان محلّ هذا البحث في الأصول- فنقول:

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 163

التحقيق في مسألة التعارض:

قد فصّلنا الكلام في

المباحث الأصوليّة في أنّ القول بكون الأصل الأوّلي في المتعارضين هو التساقط كلام سقيم و حرف غير معقول، لأنّ التعارض بين الحجّتين و من أوصاف الدليلين بعد الفراغ عن دليليّتهما، و إلّا فالتعارض بين الخبرين اللّاحجتين، أو بين الخبرين الحجّة و غير الحجّة ليس تعارضا بين الحجّتين و لا تردّد و لا تحيّر حينئذ لعدم جواز الأخذ بالخبرين في الأولى، و وجب الأخذ بالحجّة في الثانية. و لا إشكال أنّ التردّد و التحيّر في مقام التعارض ينشأ من وجود الدليلين بعد ثبوت دليليّتهما و عدم إمكان الأخذ و العمل بهما معا في مقام العمل.

فالتعارض وصف و لا بدّ في تحقّقه من تحقّق الموصوف و الموضوع قبله، و من جهة وقوع التعارض دائما بين الدليلين لا محالة قلنا بدخول مسألة التعادل و التراجيح في المسائل الأصوليّة. فلا إشكال أنّ التعارض بين الحجّتين بعد شمول الأدلّة الاعتبار لكلا الطرفين. فما معنى التساقط حينئذ؟ لأنّه إن كان بمعنى التساقط عن الحجّية و الخروج عن تحت أدلّتها فهذا خلف باطل، حيث إنّ التعارض نتيجة شمول أدلّة الحجّية لطرفي التعارض- و إن كان بمعنى عدم القدرة على العمل بكليهما فصحيح- و لكنّه تزاحم في القدرة على العمل بأدلّة الحجّية لا التعارض.

و توضيحا لهذا نقول: إنّ حال أدلّة الاعتبار مثل سائر الأدلّة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 164

المتكفّلة لبيان سائر الأحكام الشرعيّة من أنّها يبيّن لنا تلك الأحكام من غير نظر إلى ابتلائه بالمزاحم في مقام الامتثال، أو الابتلاء بالمعارض في مقام الأخذ بالحجّية. و أدلّة الاعتبار إنّما تعطي الحجّية في حدّ نفسها بحيث يتحقّق في الأمارة و الطريق شأنيّة الأخذ بهما، و صلاحيّة ذلك بالنسبة إليهما. و لا إشكال أنّ

الأخبار و الأدلّة مطلقة من هذه الجهة، بل حيث إنّ التعارض من العوارض العارضة بعد الدليلين- بعد حجّيتهما الشأنيّة- فلا يمكن للدليل التكفّل لبيان حال مورد التنافي و التعارض فإنّه في المرتبة المتأخّرة.

و من الواضح أنّ شمول أدلّة الاعتبار و الحجّية لكلا طرفي التعارض قد أوجب مثل هذا التعارض. و كيف يرتفع شمول أدلّة الاعتبار للمتعارضين، مع أنّ علّة التعارض ابتداء شمول أدلّة الاعتبار لهما معا؟ و كيف يستلزم وجود شي ء عدمه، مع أنّه متحقّق و ثابت؟

فالحقّ قياس باب التعارض بباب التزاحم، فإنّه بالنسبة إلى أدلّة الاعتبار من قبيل باب التزاحم مع الفرق بينهما بأنّ في باب التزاحم يدور أمر الامتثال بين التكليفين اللّذين يستدعيان الاطاعة و الامتثال، و في باب التعارض لا يكون كذلك لأنّ مفاد أدلّة الاعتبار جعل الحجّية لا الحكم التكليفي المستدعي للامتثال حتّى يقال بالتخيير عقلا عند عدم ترجّح في البين!! نعم التزاحم بين مؤدّى الخبرين، و المفروض صدق أحدهما و كذب الآخر. فلم يحرز جعلهما و استدعاؤهما للامتثال حتّى يدور الأمر بين التكليفين في مقام الامتثال، بل الكلام في أصل

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 165

الجعل فعلا. و حيث إنّ أدلّة الاعتبار تنزّل الأمارة و الخبر منزلة العلم تعبّدا، فحال الخبرين المتعارضين بمقتضى حجّيتهما في جميع جهاتها الثلاث: الصدور، الدلالة، و جهة الصدور كمورد قيام العلم الإجمالي بوجود حجّة للمولى في البين. و بمقتضى هذا العلم الإجمالي لا يجوز التخطّي إلى ما ينافي مؤدّى الخبرين. و نفي القول الثالث- بناء على ما ذكره المشهور- مبنيّ على التمسّك بالدلالة الالتزامية، و على ما اخترناه مبنيّ على العلم الإجمالي التعبّدي بالحجّة. و نعتذر عن طول الكلام في المقام و لنرجع إلى ما

كنّا فيه.

و قد أشرنا سابقا أنّ حال المطلقات الواردة في حرمة الغناء، و في استحباب قراءة القرآن و الرثاء، أو جواز النوح حال التزاحم، و سنشير بعد أنّ هذه المطلقات ليست من قبيل العامّ و الخاصّ، أو المطلق و المقيّد حتّى يمكن الجمع بينهما جمعا عرفيّا مقبولا، بل تزاحم بين الحرام و المستحبّ. و لا إشكال في عدم مقاومة المستحبّ قبال الحرام في الامتثال، و دعوة صرف القدرة إليه دون الحرام. فإنّ الحاكم المطلق في باب الطاعة و العصيان هو العقل، و هو يحكم بلزوم صرف القدرة فيما ألزم الشارع فعله أو تركه، و أولويّة صرف القدرة فيما أولى و أحبّ الشارع فعله أو تركه.

عدم مجال للتزاحم بين الإلزامي و غير الإلزامي:

و لا إشكال في عدم مقاومة غير الإلزامي مع الإلزامي، و مشكلة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 166

التزاحم تنشأ عن لزوم صرف القدرة في الطرفين اللّذين لا يمكن صرف القدرة في كليهما، و لو لا اللّزوم لما كان مشكلة؛ حيث إنّ أحد الطرفين جائز الترك، و مع لزوم أحد الطرفين و عدم لزوم الطرف الآخر يحكم العقل بلزوم مراعاة الطرف اللّازم تركه أو فعله، و تمام الكلام في باب التزاحم، و لذا لا يقاوم جميع المستحبّات في قبال الحرام و سنتمّم الكلام عند المستثنيات.

و ظهر إلى الآن سلامة إطلاقات حرمة الغناء و عموماتها عن أي تخصيص أو تقييد، و قد تمسّكوا للتخصيص أو التقييد ببعض الروايات التي توهم جواز الغناء و الترخيص فيه في بعض الموارد. و الحقّ أنّ كلّها خارجة موضوعا عن الغناء، و سنتعرّض لها عند ادّعاء مثل هذا الاستثناء. و تتميما لهذا البحث نقول:

استفادة العموم من إطلاق لفظة الغناء:

إن قيل أنّ كلمة الغناء في الروايات مفردة محلّا باللّام، و قد تقرّر في علم الأصول أنّها لا تفيد العموم، و لكنّا ذكرنا آنفا أنّ ظهور الألف و اللّام في الجنس، و ظهور الكلام في تعلّق الحكم بنفس الطبيعة أينما تحقّقت، و ملاحظة مساق كثير من الأخبار تعطي ثبوت الحكم له على وجه العموم مثل قوله: «إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل. قال: قد حكمت» فالحكم بكون هذه الطبيعة من الباطل مقتض لكون جميع ما يصدق عليه هذه الطبيعة

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 167

و يندرج تحتها باطلا. و هذا غير قابل للترخيص فيه ما دام متّصفا بعنوان كونه غناء المقتضي لاتّصافه بالباطل. و كذلك الأخبار التي دلّت على أنّه من

قول الزور المفسّر بالباطل، أو من لهو الحديث، فإنّها تفيد كون ما تصدق عليه طبيعة الغناء من اللّهو و الباطل فيكون آبيا عن التخصيص من جهة: أنّ ما هو باطل و لهو لا يرخّص فيه الشارع.

تجديد الكلام في موارد الشبهات:

و بعد هذا التطويل بنا في المقام ظهر الحكم و حدوده بحيث لم يبق في البين شبهة بالنسبة إلى أصل الحرمة الذاتيّة. و لعلّ أغلب المباحث و الاختلافات الواقعة في المقام من جهة الاختلاف في سعة دائرة الموضوع و ضيقها. و قد عرفت عدم تعيين الموضوع من الشارع، و إحالته إلى العرف. نعم في الروايات إشارات كثيرة إلى لوازم و آثار الغناء المحرّم و تبعاته. فإن كان صدق عنوان الموضوع على مورد محرزا متيقّنا، فلا إشكال في تنجّز الحرمة و فعليّتها؛ و إن كان الصدق المذكور مورد شكّ و شبهة فالأصل البراءة لاستلزام الشكّ في الموضوع الشكّ في توجّه الحكم و فعليّته. و الشبهة مجرى البراءة سواء كان الشكّ في الشبهة الموضوعيّة مصداقيّة بحتة، أو مصداقيّة راجعة إلى الشبهة الحكميّة، أو كانت الشبهة مفهوميّة ناشئة عن سعة دائرة الموضوع و ضيقها مفهوما. فالمقدار المتيقّن من فعليّة الحكم و اشتغال الذمّة به هو المورد المتيقّن- صدق عنوان الموضوع عليه- و في غيره تجري البراءة.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 168

و لكن مع النظر إلى تشديد حرمة الغناء في الروايات- و أنّه أمّ الخبائث.

و عشّ النفاق. و رقية الزنا، و مع الشبهات الكثيرة التي ربّما تقع في سعة دائرة الموضوع و ضيقها، سيّما بالنظر إلى فعليّة آثار الغناء و ترتّبها في كثير من هذه الموارد المشكوكة ينبغي الاحتياط في الموارد المشكوكة التي يقوى في النظر شمول الحكم لها، و الاحتياط طريق النجاة.

و ربّما يشتهي الإنسان الملهى بسماع كثير من الموارد المشكوكة غفلة عن أنّ هذا الميل و الاشتهاء يجرّه إلى هوّة الغناء المردي المهلك، بل قد مرّ الكلام منّا في الشبهات المصداقيّة قبل عند التعرّض لموضوع الغناء، و ذكرنا أنّ بعض مثل هذه الموارد المشكوكة لعلّها من الموارد التي لا يعلم حالها إلّا بالفحص الدقيق، و لا يحصل الظنّ القوي و الوثوق بحقيقتها إلّا بعد النظر العميق، فتكون من الموارد التي يجب فيها الفحص و الاحتياط، و لا تجري فيها البراءة قبل تبيين حالها. و نسأل اللّه تبارك و تعالى الصون و الحفظ عن الخطأ و الزلل و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

حرمة أخذ الأجرة على الغناء: [و تعليمه]

و ينبغي لنا حينئذ قبل التعرّض لقضيّة المستثنيات عن حرمة الغناء أن نشير إلى بعض المسائل المتعلّقة بالمقام.

لا إشكال أنّ الحرام لا يجوز أخذ الأجرة في قباله كما أنّه لا يجوز تعليمه و تعلّمه من أجل الارتكاب. و قد أشارت الروايات الواردة في المقام من أنّ ثمن المغنّيات سحت و شراؤهنّ و بيعهنّ كفر. و تعليمهنّ

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 169

كفر. و الاستماع منهنّ نفاق. و ثمنها و ثمن الكلب سحت، و السحت في النّار. و ينبغي النظر إلى بعض هذه الأمور سيّما التعليم، حيث إنّ الطرق متعدّدة، و ربّما يفترق الحكم فإنّ تعليم الغناء ربّما يكون بنفس الغناء بأن يغنّي الأستاذ و يتغنّى المتعلّم المغنّي على نمطه، فهذا لا إشكال في حرمته لكونه بنفسه غناء و أخرى يكون بنحو توصيف كيفيّة الأداء و بيان الأنغام الغنائيّة، فهذا التعليم لا حرمة فيه بنفسه ضرورة عدم صدور الغناء عن المعلّم؛ فلو فرض كون التعليم و التعلّم لمجرّد الخبرة و الاطّلاع على

الفنّ لا للتغنّي لم يكن التعليم على هذا الوجه حراما أيضا لعدم صدور الغناء عن المعلّم، و عدم كونه إعانة على الإثم و الحرام. و أمّا لو فرض كون التعليم لأجل تعاطي الغناء و الاشتغال به فهذا حرام من باب الإعانة على الإثم لكونه مقدّمة لتعلّم صاحبه و الالتهاء به إن قلنا بحرمة مقدّمة الحرام. و أمّا حرمة الأجرة فلا إشكال فيها، لأنّ المستفاد من الأدلّة الشرعيّة الناطقة بأنّ كلّ ما حرّم فقد حرم أخذ العوض عليه حرمة أخذ الأجرة على الحرام. و في محكيّ المنتهى تعلّم الغناء و الأجر عليه حرام عندنا بلا خلاف، لأنّه فعل محرّم فيحرم التوصّل إليه. انتهى.

و لا فرق في حرمة الأجرة بين التقاطع على الأجرة و عدمه- كأغلب مجالس أهل الأنس و الهوى، و خصوصا الأعراس فإنّ الجلّاس و المستمعين كثيرا ما يعطون من يعجبهم تغنّيه أو اطرابه شيئا التذاذا بتغنّيه؛ فالداعي إلى الإعطاء هو الغناء و المال في نظر المعطي عوضا

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 170

عنه؛ من دون أن يملك المغنّي هذا المال شرعا- و إن أعطاه صاحب المال عن طيب نفسه- لعدم إمضاء المالك الحقيقي هذا القسم من النقل، و لكن لو تلفه لا يكون ضامنا له لتسليط صاحب المال إيّاه على هذا بسوء اختياره.

غناء غير المكلّفين:

الأمر الثاني: لا يحرم الغناء على غير المكلّفين كالأطفال و المجانين لعدم توجّه التكليف إليهم، و لا يجب على الأولياء ردعهم عنه ما لم يشرفوا على البلوغ، و ارتكاب المحرّم لعدم تعلّق غرض الشارع بانتفاء وجود اللّهو و اللّعب في الخارج بأيّ نحو كان، و إلّا وجب منع وجوده- و لو من الآلات الموجبة لذلك من جماد و حيوان و طير

و نحوها-، بل الظاهر تعلّق غرض الشارع بعدم اشتغال العباد بفعل اللّهو و اللّعب و قول الزور، فالمبغوض هو المباشرة و الاشتغال بالغناء بخلاف الأمور التي يأتي الفساد من نفس وجودها الخارجي و لا يكون منشأ الفساد إلّا هو كنبش القبور، و وقوع القرآن- نعوذ باللّه- في العذرات، و الزنا و اللواط و شرب الخمر. و على هذا لا يجب على الأولياء ردع الأطفال و المجانين؛ و لكن هل يجوز للمكلّفين استماع الغناء منهم؟ و هل أنّ ترخيص الشارع في الفعل ترخيص في الاستماع، أو أنّ الجواز الترخيص في المقام مجرّد عدم المنع لعدم التكليف؟ و هذا لا يلازم رخصة الاستماع مع إمكان دعوى دخول حرمة الاستماع مطلقا

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 171

تحت ترك الاستفصال في الروايات، بل إمكان دعوى كون نفس الاستماع لهوا و مندرجا تحت قول الزور، بل ربّما يمكن أن نقول بعدم مجال للتوقّف و التردّد في أنّ استماع الغناء حرام مطلقا و أنّ ذلك من مسلّمات الأصحاب، و عليه عمل العلماء. و لا يخفى هذا على من لاحظ الأخبار كرواية عنبسة عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال: استماع الغناء و اللّهو ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. «1» أو قوله عليه السّلام: من ملأ مسامعه من الغناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة.

و مع الاعتذار عن سوء الأدب في المقام هل أنّ الغناء رقية الزّنا؟ كما في الرواية و لا يكون رقية تعاطي المغنّين غير البالغين فالفساد مشترك في الغناء مطلقا.

ما توهّم استثناؤه عن حرمة الغناء:

و ينبغي لنا الآن أن نرجع إلى ادّعاء وقوع الاستثناء عن حرمة الغناء و قد ظهر لك إطلاق حرمة الغناء بذاته من دون استثناء

أو تقييد، و لعلّ أغلب الخلافات في المسألة راجع إلى الخلاف في الموضوع و في سعة دائرته و ضيقها. و أنّ الاشتباهات و الاختلافات ربّما نشأت عن توهّم كون الموضوع أعمّ من هذا و قد أشرنا سابقا أنّ لفظ الغناء قد أطلق في الروايات و أريد منه الأعمّ من المحرّم و المحلّل و القرينة على هذا إباء الغناء المطلق في الروايات عن أيّ تقييد أو تخصيص. و مع هذا

______________________________

(1). الحدائق: 18/ 107، و في الوسائل: 12/ 235، الحديث 1، بتغيير مختصر.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 172

قيل باستثناء موارد عن حرمة الغناء و من تلك الموارد ما سبق مفصّلا من ادّعاء استثناء الغناء في القرآن من المحقّق السبزواري. و ينبغي لنا الآن التعرّض للموارد التي ادّعى استثناؤها عن حرمة الغناء فنقول:

[نسبة استثناء الغناء في القرآن إلى السبزواري]

قد عرفت سابقا نسبة استثناء الغناء في القرآن إلى المحقّق السبزواري و قد أطال رحمه اللّه الكلام في المقام بنقل الروايات الواردة في فضل حسن الصوت و استحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن. و لا إشكال في محبوبيّة صوت الحسن سيّما في قراءة القرآن الكريم و الدعاء، و لكنّ الكلام في تحقّق معنى الغناء المحرّم و الصوت اللّهوي في قراءة القرآن و قد جعل الغناء في قبال الترجيع بالقرآن و حسن الصوت في نفس هذه الروايات، و لذا ترى من البديهي في نظر العرف المتشرّع أنّ كيفيّة قراءة القرآن تختلف عن الغناء بل التغنّي به هتك له. و ينبغي التعرّض لبعض هذه الروايات فنقول:

محبوبيّة الصوت الحسن سيّما في القرآن:

لا إشكال في محبوبيّة الصوت الحسن سواء كان في القرآن أو غيره مثل ما ورد في رواية أبي بصير «رجّع بالقرآن صوتك فإنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا» «1» و في رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: لم تعط أمّتي أقلّ من

______________________________

(1). الوسائل: 4/ 859.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 173

ثلاث: الجمال و الصوت الحسن و الحفظ. «1» و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ من أجمل الجمال الشّعر الحسن و نغمة الصوت الحسن» «2» و الشعر- بفتح الشين لا بالكسر- بقرينة الجمال و أجمله. و لا إشكال أنّ هذه الروايات مع إبائها عن التخصيص و التقييد لا بدّ و أن لا تكون مغايرة و معارضة مع الروايات الناهية عن الغناء مع إبائها عن التخصيص و التقييد

أيضا فلا بدّ من أن يكون حسن الصوت غير الغناء المحرّم.

قراءة القرآن بالحزن:

و من الروايات الواردة في المقام ما يحثّ على قراءة القرآن بالحزن و يدلّ على فضيلة قراءة القرآن بالحزن ما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرؤوه بالحزن» «3» و لا إشكال أنّ الحزن غير التطريب و التلحين بألحان أهل الكبائر و الفسوق. و معنى الحزن هذا في هذه الروايات ما عن حفص قال: ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر و لا أرجى للنّاس منه و كانت قراءته حزنا فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنسانا. «4»

______________________________

(1). أصول الكافي: 2/ 615، الحديث 7.

(2). أصول الكافي: 2/ 615، الحديث 8.

(3). أصول الكافي: 2/ 614، باب ترتيل القرآن، الحديث 2.

(4). وسائل الشيعة: 4/ 857، باب استحباب القراءة بالحزن، الحديث 3.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 174

[استحباب تحسين الصوت]

و من الروايات الواردة في المقام ما يحثّ على قراءة القرآن بحسن الصوت و فضيلتها و استحبابها ممّن رزق هذه الموهبة.

و من هذه الروايات رواية عبد اللّه بن سنان عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: «لكلّ شي ء حلية و حلية القرآن الصوت الحسن». «1»

و في رواية حسن بن عبد اللّه التميمي عن أبيه عن الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «حسّنوا القرآن بأصواتكم فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا». «2»

و في رواية النوفلي عن أبي الحسن عليه السّلام، قال: ذكرت الصوت الحسن عنده فقال: إنّ عليّ بن الحسين كان يقرأ القرآن فربّما يمرّ به المارّ فصعق عن صوته؛ إنّ الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه. الحديث. «3»

و في الرواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان عليّ بن

الحسين أحسن الناس صوتا بالقرآن و كان السقّاؤون يمرّون به يستمعون قراءته». «4»

و روى معاوية بن عمّار في الصحيح قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل لا يرى أنّه صنع شيئا في الدعاء و القرآن حتّى يرجّع صوته

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 4/ 859، الحديث 3.

(2). الوسائل: 4/ 859، الحديث 6.

(3). الأصول من الكافي: 2/ 614، الحديث 4.

(4). وسائل الشيعة: 4/ 859، الحديث 4.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 175

فقال: لا بأس. إنّ عليّ بن الحسين عليه السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن فكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار، و إنّ أبا جعفر كان أحسن الناس صوتا بالقرآن فقال: إذا قام بالليل و قرأ رفع صوته فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين و غيرهم فيقيمون فيستمعون إلى قراءته. «1»

و عن طريق العامّة رواية البرّاء بن عازب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

«زيّنوا القرآن بأصواتكم». «2»

تحسين الصوت غير الغناء:

و لا إشكال أنّ حسن الصوت و تزيينه عند قراءة القرآن، و هو يزيد القرآن حسنا غير الغناء المناسب للمزامير و الدفّ و الموسيقى و الرقص. و قد ذكرنا آنفا أنّ العرف المتشرّع العاشق للصوت الحسن و المفتّن به يتحاشى عن الغناء بالقرآن و يراه هتكا له.

و قد عرفت أنّ الروايات في كلا الطرفين استحباب تحسين الصوت و تزيينه عند قراءة القرآن، و كذا حرمة الغناء عموما و إطلاقا تأبى عن التقييد و التخصيص فلا بدّ من أن يكون الغناء غير حسن الصوت و تزيينه عند قراءة القرآن، و لذا لا تنافي بين الأدلّة الدالّة على حرمة الغناء في القرآن و بين الروايات الدالّة على حسن الصوت الحسن في القرآن، و استحباب الترجيع في قراءته.

______________________________

(1).

وسائل الشيعة: 4/ 858، الحديث 2.

(2). بحار الأنوار: 92/ 190، الحديث 2، طبعة طهران.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 176

و مع إباء مطلقات الغناء المحرّم عن التقييد نعرف أنّ استعمال لفظة الغناء في هذه الروايات تسامح في أعمّ من الغناء اللّهوي أو الصوت الحسن.

و نتيجة إطلاق الأخبار الناطقة و عمومها بحرمة الغناء بقول مطلق احتياج الاستثناء و التقييد إلى الدليل المثبت لذلك، و الأصل بقاء المورد المشكوك إخراجه تحت عموم الحرمة.

ما توهم دلالته على جواز التغنّي في القرآن:

و من الروايات الواردة في المقام ما يدلّ على جواز التغنّي بالقرآن مثل رواية عبد الرحمن بن ثابت قال: قدم علينا سعد بن أبي وقّاص فأتيته مسلّما عليه فقال: مرحبا بابن أخي بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن قلت: نعم و الحمد للّه. قال: إنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يقول إنّ القرآن نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا و تغنّوا. فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا. و في المجمع تأوّل بعضهم تغنّوا به بمعنى و استغنوا به، و أكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت و تحزينه. انتهى.

و مثل هذه الرواية روايات أخرى بهذا المضمون إلّا أنّها ساقطة سندا و عدم ورودها عن طريق الشيعة.

و لا يخفى أنّ تحسين الصوت غير التغنّي و ليست بينهما ملازمة، و أنت ترى سند الرواية و لا يحتاج إلى البيان؛ و ظهورها في وجوب التغنّي بالقرآن و كيف يمكن أن نقول بخروج من لم يتغنّ بالقرآن و لم يحسّن

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 177

صوته و لم يرجّع به أو لم يتلذّذ بقراءته عن الانتساب و التبرّك بالنبيّ و الإسلام على اختلاف المعاني التي ذكروها ل «لم يتغنّ»، و غير خفي أنّ

عطف تغنّوا به على فتباكوا إشارة إلى تحسين الصوت و تحزينه لا على كيفيّة لهويّة مطربة. و كيف يمكن أن يكون الترجيع في الروايات بمعنى التغنّي المعهود و كون التغنّي في القرآن جائزا، مع أنّه معارض لجميع الروايات الدالّة على حرمة الغناء الآبية عن التخصيص و التقييد، بل مضمونه مخالف للضرورة و الإجماع، فإنّ الظاهر من الأمر بالتغنّي به محبوبيّة الغناء عند اللّه و هو كما ترى.

كلام علم الهدى في أماليه:

و بهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى مختار ما ذكره سيّد أعلام الهدى- سلام اللّه عليه- في أماليه غرر الفوائد و درر القلائد في المجلّد الأوّل ص 31 بقوله الشريف تأويل خبر:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيما يروى عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن». قال: أراد يستغني به، و احتجّ بقولهم: تغنّيت تغنّيا، و تغانيت تغانيا و أنشد بيت الأعشى:

و كنت امرأ زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغنّ

و قول الآخر:

كلانا غنيّ عن أخيه حياته و نحن إذا متنا أشدّ تغانيا

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 178

و احتجّ أيضا بقول ابن مسعود: «من قرأ سورة آل عمران فهو غنيّ» أي مستغن. و بالحديث الآخر: «نعم كنز الصّعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل». و الصعلوك، الفقير. و احتجّ بحديث آخر يروى عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم هو أنّه قال: «لا ينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدا أعطي أفضل ممّا أعطي، لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه». و احتجّ أيضا بخبر يرفعه عن عبد اللّه بن نهيك أنّه دخل على سعد بيته، فإذا مثال رثّ و متاع رثّ،

فقال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».

قال أبو عبيد: فذكره المتاع الرثّ و المثال الرثّ يدلّ على أنّ التغنّي بالقرآن الاستغناء به عن الكثير من المال و المثال و هو الفراش.

قال أبو عبيد: و لو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك، إذ كان من لم يرجّع بالقرآن فليس منه صلى اللّه عليه و آله و سلم.

و ذكر غير أبي عبيد جوابا آخر، و هو أنّه عليه السّلام أراد من لم يحسّن صوته و لم يرجّع فيه. و احتجّ صاحب هذا الجواب بحديث عبد الرحمن بن السائب قال: أتيت سعدا، و قد كفّ بصره فسلّمت عليه فقال: من أنت؟ فأخبرته فقال: مرحبا يا بن أخي، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن، و قد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يقول: «انّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا». فقوله: فابكوا أو تباكوا» دليل على أنّ التغنّي التحنين و الترجيع.

و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا يأذن اللّه لشي ء من أهل الأرض

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 179

إلّا لأصوات المؤذّنين، و الصوت الحسن بالقرآن». و معنى قوله: «يأذن» يستمع له، يقال: أذنت للشي ء إذنا إذا استمعت له.

و قد ذكر أبو بكر محمّد بن القاسم الأنباري وجها ثالثا في الخبر قال: أراد عليه السّلام: من لم يتلذّذ بالقرآن و يستحله و يستعذب تلاوته كاستحلاء أصحاب الطرب للغناء و التذاذهم به.

و جواب أبي عبيد أحسن الأجوبة و أسلمها، و جواب أبي بكر أبعدها. لأنّ التلذّذ لا يكون إلّا

في المشتهيات، و كذلك الاستحلاء و الاستعذاب. و تلاوة القرآن و تفهّم معانيه من الأفعال الشاقّة، فكيف يكون ملذّا مشتهى؟

و يمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا، و هو أن يكون قوله عليه السّلام: «من لم يتغنّ» من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه، به، و منه قيل: المغنى و المغاني. قال اللّه تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا* «1» أي لم يقيموا بها.

فأمّا قوله عليه السّلام: «ليس منّا» فقد قيل فيه: إنّه لا يكون على أخلاقنا. و قيل إنّه أراد: ليس على ديننا. و هذا الوجه لا يليق إلّا بجوابنا الذي اخترناه، و هو بعده بجواب أبي عبيد أليق؛ لأنّه محال أن يخرج عن دين النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم و ملّته من لم يحسّن صوته بالقرآن و يرجّع فيه، أو من لم يتلذّذ بتلاوته و يستحليها. انتهى ما اخترناه من كلامه سلام اللّه عليه.

و هذه التفسيرات و التصحيحات لعبارة الحديث مع قطع النظر عن

______________________________

(1). الأعراف: 92.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 180

عدم مقبوليّة سنده شاهدة على عدم مقبوليّة معنى التغنّي المعهود.

النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق:

و من الشواهد على عدم إمكان جواز التغنّي الحرام في قراءة القرآن طائفة أخيرة في الروايات الناهية عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و الكبائر.

و في رواية محمّد بن يعقوب بسنده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسوق و أهل الكبائر، و سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و الرهبانيّة و النوح و لا يجاوز حناجرهم، مقلوبة قلوبهم و

قلوب الذين يعجبهم شأنهم. «1»

و رواية حذيفة اليمان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: اقرءوا القرآن بلحون العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكتابين، و سيجي ء قوم من بعدي يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و الرهبانيّة لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم و قلوب الذين يعجبهم شأنهم.

و الرواية الطويلة التي ذكرها الفيض رحمه اللّه في الصافي في ذيل قوله تعالى في سورة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم: فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا نقلا عمّا رواه القمّي في تفسيره عن ابن عبّاس قال: حججنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم حجّة الوداع

______________________________

(1). الوسائل: 4/ 858.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 181

فأخذ بحلقة الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة- فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان- فقال: بلى يا رسول اللّه فقال: إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصلاة، إلى أن قال: فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه و يكثر أولاد الزنا و يتغنّون بالقرآن. الحديث.

و قال الشيخ قدّس سرّه في المكاسب: قال في الصحاح: اللحن واحد الألحان و اللّحون، و منه الحديث: اقرءوا القرآن بلحون العرب. و قد لحّن في قراءته إذا طرّب بها و غرّد، و هو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء. انتهى. و مطلق اللّحن إذا لم يكن على سبيل اللّهو ليس غناء.

هذا.

توهّم استثناء المراثي عن حرمة الغناء:

و من الموارد التي زعم استثناؤها عن حرمة الغناء الرثاء على سيّد أباة الضيم سيّد الكونين أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام و نقل الشيخ قدّس سرّه توجيه المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه لهذا

الأمر بأنّ الإجماع في الجملة و القدر المتيقّن غير موارد القرآن و الرثاء. و الأخبار ليست بصحيحة و صريحة في التحريم مطلقا. و البكاء و التفجّع مطلوب مرغوب و فيه ثواب عظيم.

و الغناء معين على ذلك و أنّه متعارف دائما في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير. مضافا إلى أنّ تحريم الغناء للطرب على الظاهر، و ليس في المراثي طرب، بل ليس إلّا الحزن. انتهى. و قال

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 182

المحقّق المامقاني قدّس سرّه في حاشيته على المكاسب: إنّ استثناء الغناء في المراثي- و إن حكى قولا- إلّا أنّ المولى المحقّق البهبهاني رحمه اللّه قد حكم بشذوذه في حواشي المسالك حيث قال: مع أنّا نرى أنّ المشايخ حكموا بحرمة الغناء مطلقا و ربّما استثنوا بعض المواضع التي لا يعرف لها دليل و لم يشيروا إلى استثناء المراثي كما هو المعروف في الكتب المعروفة المشهورة المتداولة بين الناس، و شذّ من استثنى. انتهى.

و أنّك قد عرفت فيما مضى إطلاق أدلّة الحرمة و عمومها بلا تقييد و تخصيص- حتّى بالنسبة إلى القرآن الشريف مع كثرة الروايات الواردة في تحسين الصوت و تزيينه بالنسبة إلى قراءة القرآن-. و هذه الأدلّة ظاهرة بل صريحة في التحريم مطلقا آبية عن التخصيص و التقييد، و كون البكاء و التفجّع على سيّد شباب أهل الجنّة عليه الصلاة و السلام مطلوبا و مرغوبا، و فيه ثواب عظيم فهو أمر مسلّم لا إشكال فيه كما لا إشكال في تأثير الصوت الحسن و تزيينه في الرثاء و النياحة تأثيرا بارزا و إنكاره إنكار للحسّ. و لا إشكال في إعانته على البكاء و التفجّع على الحسين عليه السّلام و

في ترقيق قلوب عاشقيه و المتولّهين إليه، إلّا أنّ الصوت الحسن و المزيّن غير الغناء المعهود المحرّم و غير ملائم معه، حتّى على ظاهر المشهور من الترجيع المطرب لأنّ الطرب الحاصل، إن كان فرحا و سرورا فلا إعانة للتفجيع، و إن كان حزنا فهو البكاء و التحزّن على فقد المشتهيات النفسانيّة لا على مصائب أهل البيت. و مع صرف النظر عن هذا إنّك قد عرفت عموم أدلّة الحرمة و إطلاقها. و على تقدير

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 183

الإعانة أيضا لا ينفع في جواز الشي ء المحرّم كونه مقدّمة لمستحبّ أو مباح. و لا يمكن مزاحمة أدلّة الاستحباب لأدلّة الحرمة لعدم قدرة الحكم غير الإلزامي لمزاحمة الإلزامي، و قد مرّ تفصيله سابقا.

ردّ دعوى تعارف الغناء في المراثي:

و أمّا دعوى تعارف الغناء و تعاطيه في المراثي من زمن المشايخ إلى زماننا هذا في بلاد الإسلام من غير نكير- و هو دليل على الجواز غالبا كما قال به المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه- فهو منظور فيه، و كيف نجمع بين دعوى هذه السيرة و بين حكم المشايخ بحرمة الغناء على الإطلاق من دون استثناء؟ فالحقّ المنع من ذلك. و الذي كان متعارفا في محاضرهم و مجالسهم إنّما هو ما لا غناء فيه. و أمّا ما كان مشتملا على الغناء لم يكن عمل العلماء و الأتقياء الحضور و التأييد و السكوت، بل هم كانوا يعرضون عنه و يقومون من ذلك المجلس كما وقع كثيرا من العلماء في زماننا و سمعنا عملهم قبل زماننا. و لعلّ سكوت بعضهم من جهة الاشتباه في الموضوع أو الشكّ في تحقّقه- كما يقع هذا الشكّ كثيرا ما لأصحاب النظر-.

و بعد إنكار هذه السيرة من مشايخنا العظام في القرون المتعاقبة

كيف يمكن انعقاد مثل هذه المجالس بهذه السيرة و الرويّة في زمن المعصومين عليهم السّلام لعدم عهد بهذه المجالس و بهذه الكيفيّة في عصر الأئمّة عليهم السّلام- فضلا عن التغنّي فيها بمرأى و مسمع من المعصومين-

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 184

حتّى يكشف عدم الردع عن الجواز أو الاستحباب؟

الإشكال في المسألة موضوعيّا:

و أمّا الإشكال موضوعيّا في المسألة بمنع صدق الغناء في المراثي كما نقله الشيخ من طلبة زمانه و قال بأنّه عجيب، فلا مجال فيه لإمكان تحقّق الغناء المحرّم بأجلى مصاديقه في قراءة القرآن أو الرثاء على الحسين عليه السّلام، فإنّ موادّ الرثاء لا دخل لها في تحقّق عنوان الغناء. و لا ريب أنّ السامع من بعيد صوتا مشتملا على الإطراب المقتضي للرقص و ضرب آلات اللّهو لا يتأمّل في إطلاق الغناء عليه إلى أن يعلم موادّ الألفاظ و يلتفت إلى الرثاء، فالحرام متحقّق بهذه الكيفيّة- و إنكار صدق تعريف الغناء عليها- مكابرة و تكذيب للحسّ. و تأييد جواز الغناء كما في المستند بقول الصادق عليه السّلام: اقرأ كما عندكم- أي بالعراق- فلا يدلّ على جواز الغناء في المرثية إلّا بعد إحراز أنّ المعهود في العراق هو الرثاء على وجه الغناء أو الغالب كذلك، و أنّى ذلك؟ و كيف يمكن دعوى- بل لم يعلم- أصل وجود الغناء في المرثية المتعارفة في عراق ذلك الزمان.

[أجر النياحة على الحسين عليه السّلام و جوازها من الرجال و النساء]

و قد يقال إنّ أدلّة جواز النياحة على الحسين عليه السّلام مختصّ بالنساء دون الرجال لورود الرواية فيهنّ. و فيه: أوّلا: أنّ المورد غير مخصّص و غير مقيّد للحكم، و لعلّ هذا من أجل غلبة النياحة من النائحات. و في زماننا الحاضر يفعلها النائحون و النائحات بل صار النائحون أغلب

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 185

و أكثر من النائحات، و لا فرق في الحكم.

و ممّا يدلّ على عدم اختصاص الأخبار بالنائحات ظهور خبر أبي هارون المكفوف في جواز نياحة الرجال على الحسين عليه السّلام و هو ما رواه أبو هارون المكفوف قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا هارون،

أنشدني في الحسين عليه السّلام. قال: فأنشدته. قال: فقال لي: أنشدني كما ينشدون يعني بالرقّة. قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزّكيّة

قال: فبكى. ثمّ قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأخرى، قال:

فبكى و سمعت البكاء من خلف الستر قال: فلمّا فرغت قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعرا فبكى و أبكى عشرة كتبت لهم الجنّة.

و من أنشد في الحسين شعرا فبكى و أبكى خمسة كتبت لهم الجنّة. و من أنشد في الحسين شعرا فبكى و أبكى واحدا كتبت لهما الجنّة، و من ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدمع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه عزّ و جلّ و لم يرض له بدون الجنّة. قال المجلسي أعلى اللّه مقامه الشريف: الرقّة «بالفتح» بلدة على الفرات واسطة ديار ربيعة و آخر غربيّ بغداد و قرية أسفل منها بفرسخ نقلا عن الفيروزآبادي. و ظاهر الرقّة في الرواية «بكسر الراء» بمعنى رقّة القلب و ترقيق اللّحن و هي المناسبة للانشاد كإنشادهم. و لم يعلم أنّ أبا هارون المكفوف كان من أهل العراق و أنّه من أهل الرقّة، و لكنّ ظاهر رواية أخرى لأبي هارون المكفوف في كونه من العراق و من المكثرين لزيارة قبر الحسين و من

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 186

الراثين عند قبره عليه السّلام. و هذا الظهور شاهد على كون المراد من الرقّة هي رقّة القلب حيث يأمر الإمام الصادق عليه السّلام بالإنشاد و الرثاء كإنشادهم و رثائهم عند قبر الحسين عليه السّلام.

و لننقل الرواية تبرّكا و تيمّنا بها. في كامل الزيارات: حدّثني محمّد بن الحسن عن محمّد بن الحسن الصفّار عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن إسماعيل عن صالح

بن عقبة عن أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال لي: أنشدني، فأنشدته فقال: لا. كما تنشدون و كما ترثيه عند قبره قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزّكيّة

قال: فلمّا بكى أمسكت أنا فقال: مر فمررت قال: ثمّ قال: زدني زدني قال: فأنشدته:

يا مريم قومي فاندبي مولاك و على الحسين فاسعدي ببكاك

قال: فبكى و تهايج النساء قال: فلمّا أن سكتن قال لي: يا أبا هارون، من أنشد في الحسين عليه السّلام فأبكى عشرة فله الجنّة، ثمّ جعل ينقّص واحدا واحدا حتّى بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحدا فله الجنّة، ثمّ قال: من ذكره فبكى فله الجنّة. «1»

______________________________

(1). كامل الزيارات: 105/ 5.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 187

النياحة على الحسين عليه السّلام من أفضل القربات:

و بالجملة: من الأمور المسلّمة التي لا ينبغي الإشكال فيه جواز نياحة كلّ أحد على الحسين عليه السّلام، و هي من أفضل القربات إلى اللّه تبارك و تعالى و أهل البيت المعصومين عليهم السّلام ما لم تقترن بالمحرّمات الأخر.

و يا للأسف باقتران المحرّمات من الغناء و آلات الطرب و الإفراط فيها بزعم الاستعانة على النياحة على الحسين عليه السّلام و على البكاء و الإبكاء عليه يشتكي الشيخ قدّس سرّه في آخر كلامه و يشير إلى بعض المراثي الحادثة في عصره و يقول: يظهر من كلام هذا المحقّق من أنّ المراثي ليس فيها طرب و الغناء معين البكاء و نظره إلى المراثي المتعارفة لأهل الديانة التي لا يقصدونها إلّا للتفجّع؛ و هنا يشتكي الشيخ قدّس سرّه بقوله: و كأنّه لم تحدث في عصره المراثي التي يكتفي بها أهل اللّهو و المترفون من الرجال و النساء عن حضور مجالس اللّهو

و ضرب العود و الأوتار و التغنّي بالقصب و المزمار- كما هو الشائع في زماننا الذي قد أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم بنظيره في قوله: «يتّخذون القرآن مزامير»، و يا ليت الشيخ كان حيّا في زماننا حتّى يرى عجائب لا يتصوّرها و لا تخطر بباله. و ما عشت أراك الدهر عجبا.

عدم جواز الغناء بجواز النياحة:

و أمّا تأييد الرثاء و جواز الغناء فيه بجواز النياحة استنادا إلى

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 188

أخبار جوازها بل بالأمر على النياحة «نوحوا على الحسين كنوح الثكلى على ولدها» «1» و ادّعاء اشتمالها على الغناء غالبا حيث إنّ النوح سيّما نوح الثكلى لا يخلو عن مدّ و ترجيع فغير صحيح لعدم مجال لادّعاء أنّ النوح مشتمل على الغناء غالبا لتقابل موضوعيهما. فالنياحة هي البكاء و الجزع و العويل و الصياح و لا تخلو عن مدّ و ترجيع و لكنّها محرقة للقلب لا مطربة. كما أنّ الرثاء هو البكاء و عدّ محاسن المرثي. فأين هذان عن الغناء بالكيفيّة اللّهويّة المطربة المناسبة لمجالس الرقص و الفرح و السرور؟ فلا مجال لادّعاء اشتمال النياحة غالبا على الغناء لعدم المناسبة بينهما. كما يشهد على هذا تقابل النوح و الغناء في موارد. منها ما في الوسائل و البحار عن تفسير العيّاشي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم: كان إبليس أوّل من ناح و أوّل من تغنّى و أوّل من حدا «2» و رواية دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: «صوتان ملعونان يبغضهما اللّه، إعوال عند المصيبة و صوت عند نغمة» يعني النوح و الغناء. «3» و الرواية السابقة التي ذكرناها عن عبد اللّه بن

سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

«سيجي ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة». «4»

______________________________

(1). كامل الزيارات.

(2). تفسير العياشي: 1/ 276، الحديث 277، و البحار 79/ 247، الحديث 25.

(3). دعائم الإسلام: 13/ 93، الحديث 4.

(4). الوسائل: 4/ 858، الحديث 1.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 189

جواز أصل النياحة ما لم تكن هجرا و زورا:

و أمّا أصل النوح و النياحة فهو جائز ما لم يكن هجرا و زورا و كفرا و اعتراضا على اللّه تبارك و تعالى. و التعابير في الروايات مختلفة، منها ما يدلّ على الجواز: «لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميّت». «1»

و منها: النهي عنه مثل ما عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم في حديث المناهي أنّه نهى عن الرنّة عند المصيبة و نهى عن النياحة و الاستماع إليها و نهى عن تصفيق الوجه. «2» و منها الدالّة على الكراهة مثل ما عن عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن النوح على الميّت أ يصلح؟ قال: يكره. «3» و منها ما عن خديجة بنت عمر بن عليّ بن الحسين عليه السّلام في حديث قال: سمعت عمّي محمّد بن عليّ عليه السّلام يقول:

إنّما تحتاج المرأة إلى النوح لتسيل دمعتها و لا ينبغي لها أن تقول هجرا فإذا جاء اللّيل فلا تؤذي الملائكة بالنوح. «4» و الروايات المذكورة متعدّدة متكثّرة و سند أغلبها صحيح. و طائفة منها صريحة في الجواز و أخرى دالّة على النهي و المنع و لا إشكال أنّ الروايات المانعة ظاهرها المنع، بل منع كراهية. و الروايات المجوّزة صريحة في الجواز و لا إشكال

في الجمع العرفي بينهما بالجواز و لو بكراهة و حزازة ما لم يقترن بمحرّمات أخر.

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 90، الحديث 7.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 91، الحديث 11.

(3). وسائل الشيعة: 12/ 91، الحديث 13.

(4). وسائل الشيعة: 12/ 90، الحديث 6.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 190

و من الواضح أنّ روايات النوح مع هذه التعابير المختلفة و مع تقابل موضوعها و موضوع الغناء لا يبقي مجال لتأييد جواز الغناء بجواز النياحة قطعا لصراحة الأدلّة المحرّمة للغناء و إبائها عن التخصيص و التقييد. و الروايات الكثيرة الدالّة على تحسين الصوت و تزيينه عند قراءة القرآن لم تكن صالحة لتقييد إطلاقات أدلّة الحرمة، فكيف بروايات النوح؟ حتّى الحقّ منه. فكيف بالنوح الباطل؟

استثناء الحداء:

و ممّا ادّعي استثناؤه عن حرمة الغناء الحداء- بالضمّ- كدعاء صوت يرجّع فيه للسير بالإبل، و استدلّ عليه بموثّقة السكوني بإسناده عن جعفر بن محمّد عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم زاد المسافر الحداء و الشعر ما كان منه ليس فيه جفاء. و في نسخة «ليس فيه خناء» و في الوسائل تسميته زادا من حيث معونته على السفر كالزاد فهو مجاز، و الخناء من معاينة الطرب انتهى. و قد فسّروا الخناء بالفحش. «1» و في هذا الباب أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أما يستحيي أحدكم أن يغنّي على دابته و هي تسبّح؟! و كذا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: لا تغنّوا على ظهورها أما يستحيي أحدكم أن يغنّي على ظهر دابّته و هي تسبّح؟! «2»

______________________________

(1). الوسائل: 8/ 306.

(2). وسائل الشيعة: 8/ 306.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 191

و لا يخفى ما في

هذه الروايات من ظهور كون الحداء السالم عن الخناء زاد المسافر و الزاد ممّا يلزمه المسافر بحسب العادة دائما. و إباء الروايتين التاليتين عن تخصيص طبيعة الغناء المستفاد من لسان الرواية حزازتها- إن لم نقل حرمتها- فكيف يمكن الجمع بين خروج الحداء بالاستثناء عن حرمة الغناء هذا؟

معاني الحداء:

و على كلّ قد اختلف في معنى الحداء، أ هو بمعنى سوق الإبل مطلقا و بأيّة وسيلة كان أو سوقه و زجره؟ أو سوقه بمطلق الصوت الأعمّ من الغناء، أو سوقه بالترنّم، أو سوقه بالغناء لها، أو هو الإنشاد الذي يساق به الإبل أو صوت مهيّج للإبل و مشوّق لحركته مباين للغناء تمسّكا بشهادة العرف؟ و لا نحتاج إلى نقل مناشئ هذه التعاريف من كتب اللّغة و معاجم الأدب، و ادّعي من جانب بعض الأصحاب اشتهار استثناء الحداء عن الغناء، و نقل كلماتهم يطول بنا.

و في رياض المسائل ينبغي القطع بعدم استثناء شي ء آخر كالحداء و سوق الإبل بالغناء في مراثي الحسين عليه السّلام و قراءة القرآن و غير ذلك، و إن اشتهر استثناء الأوّل. انتهى. و تأمّل صاحب مفتاح الكرامة في الشهرة و جزم في الجواهر بعدمها و قال: لعلّ المحقّق خلافها و عدم معلوميّة كون ذلك منه على صفة الغناء. بل ربّما ادّعى أنّ الحداء قسيم

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 192

للغناء بشهادة العرف و حينئذ يكون خارجا عن الموضوع لا عن الحكم و لا بأس به.

و ربّما يستدلّ على الاستثناء أو يؤيّده بما روى أنّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال لعبد اللّه بن رواحة: حرّك بالنوق، فاندفع يرتجز. و كان عبد اللّه جيّد الحداء و كان مع الرجال، و كان أنجشة مع

النساء فلمّا سمعه تبعه فقال صلى اللّه عليه و آله و سلم لأنجشة: رويدك رفقا بالقوارير، يعني النساء. و في رواية أخرى: رويدك رفقا بالقوارير الذي لا جابر له.

و قال الشيخ قدّس سرّه في دلالة الرواية و سندها ما لا يخفى. أمّا من حيث السند فلمنع الإرسال عن العمل بها و عدم جابر لها لعدم تحقّق الشهرة على طبق مؤدّاها، بل في الجواهر لعلّ المحقّق خلافها كما عرفت. و أمّا من حيث الدلالة فلكون مضمونها من قضايا الأحوال التي لم يعلم كيفيّة وقوعها فلا يصحّ التمسّك بعمومها، و إلى هذا أشار في الجواهر بقوله: و عدم معلوميّة كون ذلك منه على صفته. يعني عدم معلوميّة كون الحداء الواقع من عبد اللّه بن رواحة على صفة الغناء. بل الرواية صريحة بارتجاز عبد اللّه الذي كان جيّد الحداء و الرجز لا يلازم الغناء بل يقابله. و ليس في البين كلمة الغناء.

[الحداء مقابل الغناء]

بل الحداء مقابل الغناء بمقتضى رواية العيّاشي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم: «كان إبليس أوّل من ناح و أوّل من تغنّى و أوّل من حدا». «1»

______________________________

(1). قد مرّ سنده.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 193

بل الحداء من الرجز الذي فعله عبد اللّه استجابة لأمر الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم و في كنز العمّال أنّ النبيّ في مسيره إلى خيبر قال لعامر بن الأكوع: احد من هنياتك فنزل يرتجز لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم. فالرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم يأمر بالحداء و عامر يرتجز امتثالا لأمر الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم فلو كان مرتكبا لخلاف ما يأمر به كان هذا

من سوء الأدب ذنب لا يغفر و الارتجاز تهييج خاصّ للحرب و الجدال و لا يناسب الخفّة و الطرب الخاصّ بالغناء، بل الرجز لا يلازم الغناء بل يقابله. و لم يعلم المراد من حدّ الحداء في الرواية و لم يعلم وصوله إلى حدّ الغناء. لأنّ الحداء صوت بدويّ بدائي لتهييج الإبل و تشويقه للسير- و إن شئت فقل إنّه غناء خاصّ لسوق الإبل و تحريكها لا من الغناء المعهود المصطلح كما أشار إلى ذلك المسعودي في مروج الذهب حيث يقول: كان الحداء أوّل السماع و الترجيع في العرب ثمّ اشتقّ الغناء من الحداء.

فلنرجع حينئذ إلى موثّقة إسماعيل بن مسلم- أبي زياد السكوني- و في محكيّ الرواشح السماوية للسيّد الداماد أنّه قد صرّح شيخ الطائفة في كتاب العدّة في الأصول: أنّ جماعة قد انعقد الإجماع على ثقتهم و قبول رواياتهم و تصديقهم و توثيقهم منهم السكوني الشعيري- و إن كان عامّيا-، و في كتاب الرجال أورده في أصحاب الصادق عليه السّلام من غير تضعيف و ذمّ أصلا، و كذلك في الفهرست. كما أنّ المحقّق الحلّي في المسائل العزيّة صرّح: بأنّ السكوني- و إن كان عاميّا- فهو من ثقات الرواة. كما أنّه كثيرا ما يحتجّ برواية السكوني في المعتبر مع

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 194

تبالغه في الطعن في الروايات بالضعف. انتهى. و الإجماع على العمل بروايات السكوني إجماع على العمل بروايات النوفلي- الحسين بن يزيد بن محمّد- فإنّ رواية السكوني من غير طريقه نادرة جدّا و على كلّ الرواية صريحة في جواز الحداء و الشعر ما كان منه ليس فيه جفاء أي:

الباطل و البعيد عن آداب الشرع كما في مجمع البحرين أو ليس فيه خناء أي:

الفحش. و القيد أيّا ما كان يرجع: إمّا إلى خصوص الأخيرة أعني الشعر، أو إلى كليهما أعني الحداء و الشعر. فالموثّقة تدلّ على جواز الحداء إمّا مطلقا إن لم يرجع إليه القيد، و إمّا مقيّدا بعدم الجفاء أو الخناء، إن يرجع القيد إلى كلا الأمرين فالحداء جائز و هل هو غناء و خارج عن عموم أدلّة حرمة الغناء بالاستثن اء؟ أو ليس بغناء بل خارج موضوعا عن الغناء؟ و كيف يمكننا- مع هذه التغايرات في تعريفه و تقابلها مع الغناء و إباء عمومات حرمة الغناء عن التقييد و التخصيص- القول بخروج الحداء عن حرمة الغناء بالاستثناء و الدليل المخرج؟ مع أنّ قضيّة الاستثناء في صورة كون الحداء خاصّة بمعنى التغنّي للإبل حتّى تكون الرواية أخصّ مطلقا من أدلّة التحريم فتقدّم عليها. و أين السبيل إلى إثبات ذلك، مع هذه الاختلافات في معناها المتقابلة للغناء و شهادة العرف بأنّ الحداء غير التغنّي المعهود لأهل الفسق و الكبائر؟ فهو خارج موضوعا عن أدلّة حرمة الغناء. و أمّا النهي في الروايتين عن الغناء فوق الدابّة فهو غير مرتبط بالحداء فالدابّة أعمّ من الإبل و الغناء غير الحداء موضوعا فالروايتان مرتبطتان بالغناء لا الحداء.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 195

استثناء الغناء في الأعراس:

و ممّا ادّعي استثناؤه عن حرمة الغناء غناء المغنّية في الأعراس و خصوص الزفاف إذا لم يكتنف بها محرّم آخر كالتكلّم بالأباطيل و اللّعب و الملاهي و الكذب و دخول الرجال الأجانب عليها و سماع صوتها من جانبهم. و نسب هذا الاستثناء إلى المشهور، و قد حكى الرخصة في ذلك عن محكيّ النهاية و النافع و التذكرة فيما وجد فيها، و التحرير و المختلف و حاشية الإرشاد و إيضاح النافع و

المسالك و الكفاية، و نفى عنه البأس في الروضة و هو الظاهر من الدروس و جامع المقاصد و اختير التحريم مطلقا في السرائر و الإيضاح و التذكرة- على ما نقل الشهيدان- و هو ظاهر المقنعة و المراسم، و كلّ من حرّم الغناء و لم يستثن و في الدروس أنّه أحوط.

مستند المجوّزين:

و مستند المجوّزين صراحة الروايات الثلاث الواردة في عدم البأس بغناء مغنّية الأعراس و كسبها و أجرها، و هي ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنّيات فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 196

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. «1»

و كذا ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد عن حكم الحنّاط (الخيّاط) عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها. «2»

و الثالثة: ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن الحسين عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن أيّوب بن الحرّ عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس و ليست بالتي يدخل عليها الرجال.

و سند الروايات في الجملة مقبولة و إن قيل بضعف حكم الخيّاط أو الحنّاط و لكنّ الروايات معمول بها في الجملة. و قال في جامع المدارك: يشكل الأخذ بمضمونها من جهة إباء التحريم بقول مطلق عن التخصيص.

و ما يبعد- و من

الممكن أن تكون صراحة الروايات في استثناء غناء مغنّية الأعراس و الزفاف موجبة لاستثناء إطلاقات التحريم ما لم تقترن بالمحرّمات الأخر- كما أشار إليه فقهاؤنا الكرام- رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين- لأنّ جواز غناء هذه المغنّية في خصوص مورد غنائها. و أمّا اقتران سائر المحرّمات كالتكلّم بالأباطيل و العمل بالملاهي و دخول الرجال الأجانب عليها و استماع الأجانب صوتها

______________________________

(1). وسائل الشيعة: 12/ 84، الحديث 1.

(2). وسائل الشيعة: 12/ 84، الحديث 2.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 197

فحرام من هذه الجهات.

و لا يخفى أنّ توصيف المغنّية الواردة في الرواية بالتي تزفّ العرائس إشارة إلى خصوصيّة قضيّة الزفاف و المغنّية الممهّدة لهذه المجالس، و هي غير الجواري الغانيات و المغنّيات اللاتي كنّ يغنّين في القصور و مجالس اللّذة و الخمور وراء أستار الفسق و الفجور. و كانت هذه الجواري تباع و تحصل بأثمان غالية خاصّة للأثرياء و الأمراء و الوزراء و بلاطات الخلافة و الخلاعة؛ بخلاف مغنّية الأعراس التي لها صلة بعائلات النجابة و العفّة.

[القدر المتيقن على تقدير الاستثناء]

و حيث علمنا من أوّل البحث إلى هنا أنّ إطلاقات أدلّة الحرمة و عموماتها في غاية المتانة و القوّة و استثناؤها يحتاج إلى دليل قويّ متين، فالظاهر من هذا الاستثناء اختصاص الجواز بالمغنّية لا المغنّي و بمجلس العرس المختصّ بالنساء لا غير. و في مفتاح الكرامة أنّ العرس خاصّ بالتزويج- كما في كتب اللّغة- فلا يتعدّى إلى الختان و غيره. كما أنّ الأحوط الاقتصار بزفّ العرائس لا غير للتعبير الواقع في الرواية «التي تزفّ العرائس» و الأحوط الاقتصار على ذلك. نعم لا يبعد جواز تغنّي المغنّية المدعوّة في مقدّمات الزفّ و مؤخّراته بحسب العرف و العادة المتداولة، بل لا يبعد التوسعة في

هذا فبمقتضى التعبير الواقع في رواية عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير و التي تدعى إلى الأعراس، و هذا التعبير أوسع من زفّ العرائس. نعم لا يجوز التعدّي إلى الأيّام المستقلّة عن أيّام الأعراس بدعوى ارتباطها بها على الأقوى.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 198

و لا يخفى أنّ جواز تغنّي المغنّية بهذه الشرائط مقيّد أيضا بعدم اقتران سائر المحرّمات معه كحضور الرجال الأجانب و استماعهم لغنائها لأنّ صوتها بنحو التغنّي عورة، و إن لم نقل بأنّ كلامها كذلك.

و قال في مفتاح الكرامة: إنّ المراد بعدم دخول الرجال عليها عدم سماع صوتها للقطع بالتحريم، و إن لم يدخلوا إذا كانوا أجانب بل الأحوط عدم حضور المحرم لاستماعه الغناء لأنّه محرم للمغنّية، و لكن استماع غنائها حرام آخر و لا يجوز له ذلك.

و قال الإمام الخميني قدّس سرّه: إلّا أن يقال إنّ زفّ الأعراس إلى بيت الأزواج و تجويز الغناء لذلك ملازم لسماع الأجانب فضلا عن بعض المحارم. فالتجويز للزفّ ملازم لتجويز الإسماع لكن مقدار الملازمة هو الإسماع الاتّفاقي العابر و نحوه و لا يلزم منه جوازه للداخل لتلك الغاية، أو يقال إنّ الرواية منصرفة عن المحارم و هو ليس ببعيد، و إن كان الأحوط ما ذكر. انتهى كلامه رفع مقامه.

هذا ما سنح بخاطر العبد المفتقر إلى رحمة اللّه و تأييده مرتضى الحسيني النجومي في المسألة و اللّه العالم بأحكامه. و كتبت الرسالة بتلخيص و استعجال و نستغفر اللّه من الزلل حامدا له و مصلّيا و مسلّما على سيّد رسله محمّد و آله الطاهرين أوّلا و آخرا.

و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته ذو القعدة 1414 هجرية

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 199

نظرى فقهى به ماليات

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ

الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ، و الصّلاة و السّلام على محمّد و آله الطاهرين از آنجا كه لايحه ماليات در مجلس شوراى اسلامى مطرح گرديده و مسأله اى علمى و فقهى پيش آمده است كه آيا تصويب ماليات در حكومت اسلامى بر اساس احكام اوّليه است يا ثانويه؟

________________________________________

نجومى، سيد مرتضى حسينى، الرسائل الفقهية (للنجومي)، در يك جلد، قم - ايران، اول، ه ق

الرسائل الفقهية (للنجومي)؛ ص: 199

و همچنين از آنجا كه اين مسأله مقتضى طرح نظرات مختلف مى باشد و شايسته ترين محلّ براى درج اين نظرات علمى، مجله نور علم است، لذا مقاله حاضر تنها به عنوان نظرى فقهى تقديم مى گردد. باشد كه هم استدلال دو نظر مخالف مطرح گردد و هم اميد كه به مقدار توان خود، راهگشاى في الجمله در مسأله مورد بحث بوده باشد.

آيا تصويب ماليات بر اساس احكام اوّليه فقهيّه است يا [عنوان احكام ثانويه؟]

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 200

عنوان احكام ثانويه؟

ماليات كه از آن به عنوان خراج تعبير مى كنيم به سه معنى و در سه مورد استعمال مى شود كه به نظر حقير دو تاى از آنها از عناوين اوّليه و سومى يعنى ماليات و خراجى كه اكنون محلّ بحث است از عناوين ثانويه باشد.

شكى نيست كه دو معناى خراج از بدو تشكيل حكومت اسلامى تحقق يافته و بالتفصيل در كتب فقهاء خاصّه و عامّه مطرح شده است و آن دو معناى معهود كه در كتب فقهاء و كتب اموال و خراج و گاه در كتب تاريخ و تاريخ تمدّن، مورد نظر واقع شده است، يكى در مورد اراضى است كه از آن به خراج اراضى تعبير مى كنند و ديگرى در مورد معاهده و قرارداد صلح با كفّار اهل كتاب است كه از

آن به خراج جزيه تعبير مى شود. ولى معناى سوم از ماليات و خراج كه فعلا محل بحث و نظر ماست مالى است كه دولت از اجناس و اموال و درآمدهاى مسلمانان- غير از اراضى و زمينها- مى گيرد.

و تمام مالياتها چه مستقيم و چه غير مستقيم، چه سرانه و چه بر واردات يا ماليات رأى يا ماليات بر ارث يا بر مشاغل يا بر فروش يا بر شركتها يا ماليات ارزش اضافى يا امنيت اجتماعى و امثال اينها همه داخل اين عنوان سوم است و اغلب ماليات هايى كه اكنون وزارت دارايى از مردم وصول مى كند ماليات بر درآمد و از نوع سوم

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 201

معانى خراج است كه سابقا عرض شد.

[استعمال لفظ خراج در مورد ماليات]

امّا استعمال لفظ خراج كه به معناى بهره و مستفاد مى باشد در مورد مالياتهاى سه گانۀ فوق بدين جهت است كه در حقيقت قلم مهمّ درآمدهاى دولتى را اينها تشكيل مى دهد و تنها درآمدى است كه دولت مى تواند در مخارج خود بر روى آنها تكيه كند از آن جهت كه متعلّق به دولت است، زيرا اموال و درآمدهاى ديگر هر كدام مبنىّ بر موضوعاتى است كه ممكن است خيلى وقتها تحقّق نپذيرد و به فعليت درنيايد و به تعبير فقها ممكن است به عدم فعليت و تحقّق موضوع، حكم نيز فعليّت و تحقّق نپذيرد. بله فقط زكات حكم ثابت دايمى است ولى آن هم از نظر تعيين موارد مصرف از نظر شرع ابتداء يك درآمد دولتى تلقّى نمى گردد و ثانيا اموال زكوى اموالى مخصوص و شامل جميع موارد درآمد نمى گردد.

امّا خراج جزيه واضح است كه از محل بحث خارج و قضيّه ما قضيّه

تصالح بين كفّار و مسلمين نيست تا آن حرفها پيش آيد، بلكه صحبت اين ماليات بين مسلمين و حكومت شرعى آنان است.

حكومتى كه شرعا حق ولايت بر آنان را داشته باشد و طبعا آنان هم در مقابل بايد اطاعت از ولايت آن حكومت كه در رأس آن ولىّ فقيه است داشته باشند.

و امّا خراج اراضى، آن هم عقد قراردادى است بين حكومت شرعى مردم و خود مسلمانان كه آنان استفاده صالحه از اراضى و

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 202

زمينهاى مربوط به حكومت شرعى يا ولىّ امر نموده و در مقابل خراج و مالياتى را به حكومت وقت و ولايت امر مى پردازند. البته روشن است خراجى كه از اراضى واگذار شده از طرف دولت اسلامى به دولت پرداخت مى شود با خراجى كه بر طبق قانون جزيه و به موجب قرارداد صلح گرفته مى شود فرق دارد. در خراج جزيه اى مالكيت زمين از اهل جزيه سلب نمى شود، مگر آنكه سلب مالكيت به مواد قرارداد جزيه اى اضافه شود و در خراج اراضى اين طور نيست، چه بسا مى شود كه مردم مالك زمين نمى شوند و زمينى كه در دست آنهاست از طرف دولت اسلامى به آنها واگذار شده است و همان طور كه بعدا عرض مى شود اين واگذارى علاوه بر آنكه خود از عناوين اوّليه فقهيه است، تحت يكى از عناوين اوّليه فقهيّه چون اجاره، مزارعه، مساقات يا صلح و يا امثال آنها مى باشد و با از بين رفتن اين عناوين و موضوعات، حكم هم منتفى مى گردد.

در خراج جزيه اى، اين خراج با اسلام آوردن جزيه دهنده از وى ساقط مى شود ولى خراج الأراضى اصولا بين مسلمين و حكومت اسلامى منعقد

مى گردد و لذا اسلام آوردن و سقوط جزيه اى در كار نخواهد بود. در خراج جزيه اى اذلال و سرشكستگى اهل ذمّه منظور است به خلاف خراج اراضى نسبت به مسلمين.

پس روشن شد كه اين دو معناى خراج متفاوت بوده و خراج ارض و خراج جزيه يكى نيستند. ولى واضح است كه هر كدام از

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 203

اين دو عنوان، از عناوين اوّليه مطروحه در فقه است ولى خراج الجزية از احكام اوّليه متفرّعۀ بر جهاد و توابع مصالحه و قرارداد بين مسلمين و كفار اهل كتاب بوده كه يكى از آنها جزيه است.

[ماليات از عناوين ثانويه است]

و امّا ماليات زمينها به معناى خراج الأرض كه زمينها متعلّق به دولت اسلامى باشد و به طور واگذارى به مسلمين واگذار شود.

اوّلا: خود آن اراضى بعناوينها الأوّليه مورد نظر در مبحث جهاد و احياء الموات و احكام الأرضين است.

ثانيا: آن هم در حقيقت به يكى از عناوين اوّليه مطروحه در فقه باز مى گردد. يعنى اين واگذارى يا به نحو بيع است يا اجاره يا ايهاب يا مزارعه يا مساقاة يا اقراض و يا تصالح بين الطّرفين و در اغلب موارد به نحو اجاره بوده و خراج در حقيقت حكم كرايۀ زمين را داشته است و چون اين نحو خراج از مصاديق عناوين اوّليه فقهيه است، پس بايد از همان عناوين اوّليه باشد. تفصيل كلام در اين دو معناى خراج و تاريخ مالى آن دو، و وضع مسلمين در ادوار مختلفه عصور اسلامى، محتاج به رجوع به كتب مفصّله اى است كه اين دو عنوان در آنها مطرح شده است. و امّا ماليات محلّ بحث و نظر ما كه از آن

فعلا تعبير به ماليات بر درآمد مى كنيم- و همان طور كه سابق هم عرض شد اغلب مالياتهاى وزارت دارايى از اين نحو ماليات است- آن طور كه بنده خيال مى كنم از عناوين ثانويه بوده و هر چه بيشتر تأمّل مى نمايم اين مطلب روشن تر مى گردد.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 204

زيرا، اوّلا ما در مراجعه به فقه اسلامى عنوانى به عنوان ماليات بر درآمد مردم نمى بينيم بلكه در مقابلش به حكم اجماع و نصّ، اصالت عدم جواز تصرّف در مال غير بدون مجوّز شرعى را مشاهده مى كنيم همان طورى كه در توقيع مبارك امام عصر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف است: (لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال الغير بغير إذنه) «1» و دعواى آنكه تصرّف ولىّ فقيه در مال مردم، تصرّف در مال غير نيست بلكه تصرّف در مال خود است، بسيار بعيد مى نمايد زيرا او از باب ولايت، با ملاحظۀ مصالح منظوره حق تصرّف در مال غير را دارد، نه آنكه خود مالك مى باشد و هيچ بعيد نيست كه اين حق تصرّف، بر حقّ تصرّف مالك نيز اولويت داشته باشد، حتّى ممكن است بگوييم در ابتداء امر عنوان عام حكومت اسلامى و ولىّ فقيه مالك، در عرض مالك اصلى نيستند امّا بعد از جواز تصرّف و اقدام بر اين تصرّف شرعى، مالك گردند. باى اين نحو جواز تصرّف بدون حصول عنوان مالكيّت، بدون شك براى ولىّ فقيه ثابت است مثل ولايت بر ممتنعين چون ولايت بر ممتنع از پرداخت زكات يا ممتنع از تحويل گرفتن ثمن در بيع خيارى يا ممتنع از گرفتن ثمن يا مثمن در مدّت مقرّر يا ممتنع از گرفتن ثمن يا مثمن در

مدّت مقرّر يا ممتنع از تقسيم مال مشترك يا ممتنع از مصالحه در مال مختلط و امثال اينها.

______________________________

(1). بحار: 53/ 183، ط بيروت.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 205

پس وضع اين نحو خراجا و عناوين ديگرى كه بعدا به آنها اشاره مى شود همگى با عنوان ثانوى و با ملاحظۀ اصل احترام مالكيت شخصى و عدم جواز تصرّف در آن بدون اجازه مالكش پيش مى آيد.

[حق تقنين ماليات با ولى فقيه است]

و حقّ تقنين اين قانون يعنى ماليات بر درآمد يا ولىّ فقيه و ولىّ امر مسلمين بوده و از فروعات و وظايفى است كه متوجّه ولىّ مذكور است. و ما از آن وظائف به نحو اصطيادى به حاجة البلاد و مصالح العباد تعبير مى كنيم و بدون شك در صورت تحقّق حكومت شرعيّه و فعليّت ولايت فقيه، بايد حقّ اين تقنين و تصميم را داشته باشد چون از قطعيّات مذهب اماميّه، ثبوت ولايات نوعيّه- كه از آنها به وظائف حسبيّه تعبير مى كنيم- مى باشد و شارعى كه راضى به ترك اين امور نيست چگونه اجازه مى فرمايد كه امور مسلمين مهمل و نظام آنان مختلّ و بيضۀ اسلام در معرض زوال و نابودى قرار گيرد و شكى نيست كه اجراء آن امور و وظائف جز با ثبوت ولايت و نيابت فقها شايسته و نوّاب عصر غيبت، درست درنمى آيد و همانا اهمّ وظائف حسبيّه و اساس مصالح اسلامى (أمّ المصالح الاسلامية) تشكيل اصل حكومت اسلامى و قطع دستهاى طواغيت زمان و جبابره كفر و ظلم و تأمين بنيۀ مالى براى مسلمين است. و الّا با وجود آنان و سلطه ظالمه شان، دستهاى ولىّ فقيه بسته و جز اصلاح بعضى امور مختصرى از قضايا و احوالات شخصيّة مسلمين

و يك دنيا خون دل

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 206

و حسرت از تضييع احكام الهى، براى ولىّ فقيه چيزى باقى نمى ماند.

پس اگر فرض شود كه روزى حكومت اسلامى برقرار و دست ولايت فقيه گشاده و مردم هم كمال ايثار و فداكارى و تعهّد و مسئوليت را نسبت به اين حكومت ابراز داشتند- مثل امروز كه جاى عذرى براى كسى باقى نمانده- آيا واقعا مى شود گفت كه اكنون هم شرع به اهمال اين حكومت و تعطيل احكام الهى راضى است يا آنكه بعد از اين همه شهادت و ايثار، حاجة البلاد و مصالح العباد را به مهبّ الرياح واگذارد. پس از اهمّ وظائف ولىّ فقيه به هنگام قدرتش بر حفظ بيضه اسلام و نظام امر مسلمين، رسيدگى به حاجة البلاد و مصالح العباد است و به بيان ديگر ما وظائف ولىّ فقيه را يك كاسه به حاجة البلاد و مصالح العباد تعبير مى كنيم و اينجاست كه براى تحقّق اين مقصود، عناوين ثانويه ديگرى متوجه مى شود- كه مانند عناوين اوّليه ثابت نيست- مثل وضع و تصويب و اخذ ماليات بر درآمد كه به عنوان اوّلى مثل زكات و خراج الأراضى و جزيه، چنين خراجى در اسلام مطرح نيست ولى به عنوان ثانوى يعنى حاجة البلاد و مصالح العباد مقتضى گرفتن چنين مالياتى مى گردد.

اگر گفته شود كه زكات و صدقات [هم، بايد از عناوين ثانويه باشد]

اشارة

و امثال اينها نيز در حاجة البلاد و مصالح العباد مصرف مى گردد پس بايد آنها هم از عناوين ثانويه باشند و حال آن كه كسى چنين حرفى، نزده است. گوييم:

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 207

[جواب]

عنوان حاجة البلاد و مصالح العباد از مصاديق و موارد صرف عناوين مذكور يعنى زكات و صدقات و حسنات مى باشد، يعنى در حقيقت عناوين زكات و امثال آن در رتبه موضوعيّت نسبت به عنوان مورد نظر مسأله ما مى باشد و رتبه متقدّم است گر چه خود زكات و امثال آن هم داراى موضوعات خاصه متقدمه خود مى باشد و اين به خلاف محلّ كلام است زيرا مدّعاى ما چنان است كه عنوان حاجة البلاد و مصالح العباد (يا هر تعبير ديگرى بكنيد) در رتبه موضوعيّت براى وضع اين نوع ماليات است و وضع و تقنين ماليات در رتبه متأخّره از آن عنوان مى باشد. پس رتبه اين نوع ماليات به دو مرتبه، متأخر از رتبه زكات و صدقات و امثال آن مى باشد و به همين مناسبت سزاست كه به كلام پيشين خود باز گرديم و نظرى به فرق بين اين نحو ماليات و ماليات اراضى بيفكنيم.

ماليات اراضى در مقابل واگذارى اراضى از طرف دولت اسلامى به مسلمين است كه در مقابل اين واگذارى چيزى به دولت اسلامى بپردازند و در حقيقت اين معنى از ماليات به يكى از عناوين اوّليه فقهى چون بيع اجاره، ايهاب، اقراض، يا صلح بين الطّرفين و امثال اينها برمى گردد و به تعبير ديگر اين نحو ماليات احتياج به يك قرارداد قبلى و عقدى از عقود مذكور را دارد.

و ماليات بر درآمد مقدار مالى است كه مردم پس

از ارزيابى كسب و كارشان به دولت مى پردازند و در حقيقت معاوضه و تقابلى

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 208

قبلا نبوده است.

[پرسش و پاسخ]

و اگر گفته شود كه اين ماليات هم براى مصارف دولت است، گوييم: آن مصارف بعد از اخذ ماليات پيش مى آيد نه قبل تا تقابلى باشد. به عبارت ديگر آن مصارف، علّت غائيه است و در رتبه متأخّره تحقق مى يابد پس محال است كه موضوع الحكم و در رتبه متقدّم باشد و لذا اخذ ماليات قبل از آن مصارف، بايد مجوّزى داشته باشد و مجوزى هم نيست مگر حاجة البلاد و مصالح العباد يا امثال آن و اين اشتباه ناشى از اشتباه و فرق نگذاشتن بين موضوع و متعلّق حكم است، احكام تكليفيه هميشه بين دو جهت و داراى دو جنبه است. جهت و جنبه تعليق و جهت و جنبۀ تعلّق. امّا جنبه تعليق از ناحيه موضوع است كه حكم معلّق بر او و در رتبه متأخر از اوست و امّا جنبه تعلّق از ناحيه متعلّق است كه حكم متعلّق و متوجّه بر او و در رتبه متقدّم از اوست و متعلّق حكم به دو مرتبه متأخّر از موضوع است و محال است كه در رتبه موضوع واقع شود.

بارى باز هم منصفانه گوييم گر چه مى دانيم كه هيچ گاه هيچ دولتى نتوانسته است بدون قدرت مالى و تنظيم بودجه و خراج پا بر جا بماند و طبعا دولت جمهورى اسلامى ما هم بايد چنين باشد و به تعبير ديگر از لوازم عرفيه حكومت اسلامى و جامعه اسلامى قدرت مالى آن است، ولى اين منافات ندارد كه قسمتى از آن بودجه و خراج به عنوان

ثانوى تأمين گردد. هر چند كه نياز حكومت

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 209

اسلامى بر آن كاملا روشن و محتاج به بيان و اثبات نيست. البته نبايد خلط شود كه تصويب امور مالى ديگرى در اسلام به عناوين اوّليه چون خمس، زكات، كفارات مالى، بعضى از موقوفات، خراج اراضى و جزيه غير از ماليات مورد نظر فعلى ماست، زيرا امثال خمس و زكات و كفارات مالى و بعضى از موقوفات در ابتداء امر و بالذات از اموال دولت محسوب نبوده و بالمآل از جهت مصرف به خزانه دولت اسلامى واريز مى گردد ولى خراج اراضى و جزيه و بعضى موقوفات ديگر از عناوين اوّليه بوده و اينها غير از ماليات محل بحث مى باشد و عدم كفايت امور مالى حكومت اسلامى بواسطه موارد مذكورۀ فوق و نياز به تقنين و جعل ماليات بر درآمد موجب نمى شود كه اين نوع مالياتها تحت عناوين اوّليه درآيد و هر چه بيشتر نياز را ثابت كنيم، عنوان ثانوى را بيشتر ثابت كرده ايم.

[پرسش و پاسخ]

و باز هم اگر گفته شود كه ما، مسئولان و گردانندگان جمهورى اسلامى را وكلاء ملّت و مردم مى دانيم، بنا بر اين مردم در قضيّه تقنين و اخذ ماليات به آنان وكالت داده اند گوييم: اين منافات با عنوان ثانوى بودن ماليات ندارد زيرا نفس توكيل غير، اگر از عناوين اوّليه بوده باشد منافات با آن ندارد كه مورد وكالت از عناوين ثانويه باشد، پس مسئولين امر وكالت در تنفيذ و اجراى احكام و قوانين به عناوين اوّليه و ثانويه را دارند و نفس وكالت، اوّليت عنوان را ثابت نمى كند همان طور كه ثانويت آن را هم، اثبات

الرسائل الفقهية (للنجومي)،

ص: 210

نمى كند.

بارى از شواهد بر آنچه عرض كرديم اين است كه تصويب و تقنين اين نحو ماليات از طرف دولت اسلامى بايد انجام گيرد صنفى بر عليه صنف ديگر و گروهى بر عليه گروه ديگر- كه همه در تحت لواء حكومت اسلامى زندگى مى كنند- حقّ جعل ماليات ندارند مگر با تصويب حكومت اسلامى و اوست كه نظر در حاجة البلاد و صلاح العباد مى كند، يعنى حاجة البلاد و صلاح العباد، كه موضوع جواز تشريع قانون ماليات است، عنوانى عارض بر اصل مالكيّت شخصى اشخاص بوده و عنوانى ثانوى است و آن حكمى است كه دربارۀ همه افراد و اشخاص و اصناف و گروهها به عنوان اوّلى جعل شده است، همان عدم جواز تصرّف در ملك غير بدون اذن اوست.

[پرسش و پاسخ]

اگر گفته شود كه در قانون تعزيرات هم، تحديد ميزان تعزير به نظر حاكم است پس بايد او هم به عنوان ثانوى باشد، گوييم:

كه اصل تعزير در شرع مقدس به عنوان حكم اوّلى جعل شده است و مقدار و اندازۀ تعزير، از فروعات آن حكم ابتدايى است، پس همه از عناوين اوّليه شرعيّه است به خلاف مقام كه اصل تقنين اين نحو ماليات به عنوان اوّلى نيست.

شاهد ديگر آن كه اگر زندگى مردم بسيار ساده و بر مبناى قناعت بوده باشد ولىّ امر، حاجتى به وضع خراج و اخذ ماليات نمى بيند، مثل زمان رسول اكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و اگر نياز باشد پاى وضع

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 211

ماليات به ميان مى آيد و هر مقدار وسعت دولت اسلامى و قلمرو نفوذ او در جهان بيشتر شود و حاجت به تأمين

نيازهاى مالى بيشتر گردد به عنوان ثانوى نياز به اخذ ماليات و رفع يد از عدم جواز تصرّف در مال غير، بيشتر توجيه مى گردد و با اين گفته ها فرق بين ماليات مورد بحث با زكات روشن شد چون زكات در همه حال ثابت است و قابل عفو نبوده و غير قابل تغيير و تبديل مى باشد به خلاف ماليات بر درآمد كه مى تواند مورد عفو قرار گيرد، به معناى عفو از اصل تقنين جديد يا عفو از آنچه را كه دولت اسلامى قبلا على حسب المصلحة مقرّر داشته است نه به معناى دست كشيدن از حكم شرعى به عنوان اوّليش مثل زكات يا حدّ معيّن شرعى كه قابل عفو و بخشيدن نيست.

[پرسش و پاسخ]

اگر گويند كه: وظائف ولىّ فقيه از عناوين اوّليه است پس بايد موارد و مصاديق آن مثل جعل و تقنين قوانين صالحه و مورد نياز نيز از عناوين اوّليه باشد، گوييم چنين است ولى با قياس محلّ كلام نسبت به حكم اوّلى تشريع شده از طرف شارع مقدس كه عبارت است از عدم جواز تصرّف در املاك شخصيّة، عنوان ثانوى داشتن قضيّه تقنين مذكور، روشن مى شود. يعنى ولىّ فقيه با نظر به حاجة البلاد و صلاح العباد از حكم اوّلى عدم جواز تصرف در ملك غير به عنوان اوّلى آن رفع يد نموده و به عنوان ثانوى، قانون ماليات بر درآمد را وضع مى فرمايد.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 212

و با نظر به اصل عنوان اوّلى حكم و عدم جواز تصرّف مذكور و وضع قانون ثانوى از طرف ولايت فقه قياس ديگرى در مسأله پيش مى آيد كه مطلب را قدرى روشن تر مى سازد، اگر قضيّه مورد

بحث را با قضيّه ملكيت شخصيّة قياس كرده و بگوييم كه عنوان، چون عنوان دولت و حكومت اسلامى مالك مى شود و وضع مالى مسلمين بايد چنين و چنان باشد، آيا بيش از آن است كه عنوان مثل مالك شخصى مالك مى گردد؟ آيا تحصيل مال به نحو وجوب و لزوم در ملكيت شخصيّة از عناوين اوّليه است يا آنكه عنوان ثانوى نياز به مال و رفع حوايج علّت تحصيل مال است؟ همين طور در مقام مالكيت عنوان كه به عنوان ثانوى لزوم تحصيل مال و تشريع الخراج پيش مى آيد و اين عنوان ثانوى تا لزوم و حاجتى شرعى و مجوّزى در بيان نباشد متحقّق نمى گردد و اگر ما عنوان را مالك ندانيم گمان مى كنم كه قوّت و استحكام اصل اوّلى عدم جواز تصرّف در مال غير و قوّت و استحكام عنوان ثانوى در رفع يد از اصل مذكور روشن تر و واضح تر مى گردد.

و باز هم شايد مؤيّدى بر مدّعاى مقام، قضيّه جعل خراج العشور بر اموال تجّار غير مسلمان در زمان خليفه ثانى است كه از اموال غير مسلمانان كه از روم براى تجارت به بلاد اسلام آورده مى شد، عشرى مى گرفتند و ظاهرا آن طور كه از كتاب خراج ابى يوسف و الاموال ابى عبيد برمى آيد در زمان پيغمبر اكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم و خليفه

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 213

اوّل معمول نبوده و بعدا مرسوم شده و ظاهرا مقبوليت في الجمله بين صحابه نيز پيدا نموده گر چه باز نحوه جواز اخذ اين ماليات عشورى و عدم جواز آن مورد بحث و اختلاف بين فقهاى عامّه و خاصّه شده است و بعضى جواز

آن را مطلق و بعضى ديگر مشروط بر آن دانسته اند كه جواز اخذ آن در صورتى است كه جزء قرارداد مصالحه بين مسلمين و كفّار واقع شده باشد و اگر اين چنين اشتراطى در بين نباشد، اخذ آن جائز نخواهد بود.

[جواز اخذ عشور با عنوان ثانوى است]

و على اىّ حال بنا بر قول آنان كه اخذ عشور را مطلقا جائز دانسته اند اين جواز، جز با اخذ عنوان ثانوى و جواز تصرّف ولىّ مسلمين به عنوان متأخّر و مستحدث درست در نمى آيد و قضيّه اخذ اين عشور در بعضى موارد، مورد تصويب و امضاى ائمّۀ طاهرين عليهم السّلام قرار گرفته و گاهى هم مورد قبول قرار نگرفته است و لكن ثبوت في الجمله براى استدلال بر مطلب كافى است. و اين مجرّد شاهدى بود و الّا مقام بحث ما نه از اين قبيل عشور است و نه آن كه جاى بحث آن باشد كه آيا مورد تصويب و امضاى شرع هست يا خير؟ چون فرض مقام ما، ولايت فقيه جامع الشرائط ولايت و زعامت است.

[عدم تصحيح قضية ماليات به عنوان حكم اوّلى از باب جعاله]

امّا حلّ قضيّه ماليات به عنوان احكام اوّليه از باب جعاله مقرّره بين دولت و مردم، بدين معنا كه هر كس از وسائل رفاهى دولت چون برق، نفت، پست، وسائل نقليه دولتى چون قطار، راه آهن و

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 214

هواپيما و امثال اينها استفاده كند، بايد در مقابل آن مالياتى به عنوان حق الجعاله به دولت بپردازد. باز هم تصويب ماليات را بر اساس احكام اوّليه به عنوان ماليات تصحيح نمى كند زيرا اوّلا بنا بر اين مبنى بايد دولت فقط از آنان ماليات بگيرد كه از اين امور استفاده مى نمايد و ثانيا اگر با اين امر اخذ ماليات تصحيح و درست شود از محل بحث خارج مى گردد، زيرا در اين فرض، محل كلام، عنوان جعاله پيدا مى كند نه ماليات.

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 215

فهرس الموضوعات

رسالة التصوير و التمثيل

صور المسألة 5

الرواية الأولى 6

الرواية الثانية 10

الرواية الثالثة 12

الرواية الرابعة 23

الرواية الخامسة 25

اشتراط حرمة التصوير و التمثيل على تقدير القول بها 31

بالاكمال 36

اشتراك الاثنين في العمل 37

أخذ التصوير بالآلات 39

تصوير الملك و الجن 42

الكلام في جواز الاقتناء 47

رسالة في نجاسة الخمر و المسكر

63 المقدمة 64

فتاوى العلماء 67

الاستدلال بالكتاب 71

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 216

الاستدلال بالروايات 75

نجاسة جميع المسكرات 92

رسالة الغناء

103 دعوى الإجماع على حرمة الغناء 104

الآيات في حرمة الغناء 105

معنى الزور 107

تفسير قول الزور بالغناء 108

كيفية شمول قول الزور للكيفية اللهوية 109

آية لهو الحديث 112

معنى الاشتراء 113

الاشتراء استعارة 115

آية شهود الزور 118

حرمة اللهو 127

المحرّم من اللهو 129

مشكلة الموضوع 130

تعاريف الغناء 132

الغناء ليس من مقولة القول 134

تشخيص الموضوع بنظر العرف 135

موضوع الغناء في نظر العلّامة الاصفهاني 138

مراد الشيخ من المناسبة مع آلات اللهو 140

تعريف الإمام الخميني قدّس سرّه 141

الاشكال في اعتبار الرّقة 142

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 217

الغناء محرم باطلاقه 143

آلات الغناء المختصّة و المشتركة 144

حكم الغناء في موارد الشبهات 145

حرمة الغناء ذاتية 146

كلام الفيض 146

كلام المحقّق السبزواري 148

التعرض لعبارة الفيض 151

ظهور الروايات في الحرمة الذاتية 153

الاستشهاد لتقييد الإطلاقات 156

توهم التعارض بين الأدلة 161

التحقيق في مسألة التعارض 163

عدم مجال للتزاحم بين الالزامي و غير الالزامي 165

استفادة العموم من إطلاق لفظة الغناء 166

تجديد الكلام في موارد الشبهات 167

حرمة أخذ الأجرة على الغناء 168

حرمة أخذ الأجرة على تعليم الغناء 168

غناء غير المكلّفين 170

حرمة استماع الغناء 170

ما توهم استثناؤه عن حرمة الغناء 171

نسبة استثناء الغناء في القرآن إلى السبزواري 172

محبوبية الصوت الحسن سيّما في القرآن 172

قراءة القرآن بالحزن 173

استحباب تحسين الصوت 174

تحسين الصوت غير الغناء 175

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 218

ما توهم دلالته

على جواز التغني في القرآن 176

كلام علم الهدى في أماليه 177

النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق 180

توهم استثناء المراثي عن حرمة الغناء 181

ردّ دعوى تعارف الغناء في المراثي 183

الاشكال في المسألة موضوعيا 184

أجر النياحة على الحسين عليه السّلام 184

جواز النياحة من الرجال و النساء 184

النياحة على الحسين عليه السّلام من أفضل القربات 187

شكاية الشيخ عن بعض مجالس العزاء في زمانه 187

عدم جواز الغناء بجواز النياحة 187

جواز أصل النياحة ما لم تكن هجرا و زورا 189

استثناء الحداء 190

معاني الحداء 191

الحداء مقابل الغناء 192

استثناء الغناء في الاعراس 195

مستند المجوزين 195

القدر المتيقن على تقدير الاستثناء 197

نظرى فقهى به ماليات

199

آيا تصويب ماليات بر اساس احكام اوليه است يا عناوين ثانويه 199

استعمال لفظ خراج در مورد ماليات 201

الرسائل الفقهية (للنجومي)، ص: 219

ماليات از عناوين ثانويه است 203

حق تقنين ماليات با ولى فقيه است 205

اگر گفته شود زكات و صدقات هم، بايد از عناوين ثانويه باشد 206

جواب 207

پرسش و پاسخ 208

پرسش و پاسخ 209

پرسش و پاسخ 210

پرسش و پاسخ 211

جواز اخذ عشور با عنوان ثانوى است 213

عدم تصحيح قضية ماليات به عنوان حكم اوّلى از باب جعاله 213

________________________________________

نجومى، سيد مرتضى حسينى، الرسائل الفقهية (للنجومي)، در يك جلد، قم - ايران، اول، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.